سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ

١٣٠ - ١٣٨

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿١٣٠ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴿١٣١ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿١٣٢ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿١٣٣ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿١٣٤ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿١٣٥ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿١٣٦ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿١٣٧ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴿١٣٨

بيان

آيات داعية إلى الخير، زاجرة عن الشر و السوء، و هي مع ذلك لا تفقد الاتصال بما قبلها و لا ما بعدها من الآيات الشارحة لقصة غزوة أحد، و بيان ما كان في المؤمنين يومئذ من مساوىء الحالات و الخصال المذمومة التي لا يرتضيها الله سبحانه، و هي الموجبة لما دب فيهم من الوهن و الضعف و معصية الله و رسوله، فالآيات من تتمة الآيات النازلة في غزوة أحد.

ثم هدايتهم إلى ما يأمنون به الوقوع في هذه الورطات المهلكة، و العقبات المردية و دعوتهم إلى تقوى الله و الثقة به و الثبات على طاعة الرسول، فهذه الآيات التسع خاصة فيها ترغيب و تحذير، فهي ترغب المؤمنين على المسارعة إلى الخير و هي الإنفاق في سبيل الله في السراء و الضراء، و كظم الغيظ و العفو عن الناس، و يجمعها بث الإحسان و الخير في المجتمع، و الصبر على تحمل الأذى و السوء، و الصفح عن الإساءة قبالة الإساءة، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي تستحفظ بها حياة المجمتع و يشد بها عظمه فيقوم على ساق، و من لوازم هذا الإنفاق و الإحسان ترك الربا و لذلك بدأ به، و هو كالتوطئة للدعوة إلى الإحسان و الإنفاق، فقد مر في آيات الإنفاق و الربا من سورة البقرة أن الإنفاق بجميع طرقه من أعظم ما يعتمد عليه بنية المجتمع، و أنه الذي ينفخ روح الوحدة في المجتمع الإنساني فتتحد به قواه المتفرقة فتنال بذلك سعادته في الحياة، و يقوى به على دفع كل آفة مهلكة أو موذية تقصده، و إن الربا من أعظم ما يضاد الإنفاق في خاصته هذه.

فهذا ما يرغبهم الله فيه ثم يرغبهم في أن لا ينقطعوا عن ربهم بقواطع الذنوب و المعاصي فإن أتوا بما لا يرضاه لهم ربهم تداركوه بالتوبة و الرجوع إليه ثانيا و ثالثا من غير أن يكسلوا أو يتوانوا، و بهذين الأمرين يستقيم سيرهم في صراط الحياة السعيدة فلا يضلون و لا يقفون فيهلكوا.

و هذا البيان كما ترى أحسن طريق يهدي به الإنسان إلى تكميل نفسه بعد ظهور النقص و أجود سبيل في علاج الرذائل النفسانية التي ربما دبت في النفوس المحلاة بالفضائل فأورثت السفال و السقوط و هددت بالهلكة و الردى.

تعليم القرآن و قرانه العلم بالعمل

و هذا من دأب القرآن في تعليمه الإلهي إذ لم يزل يجعل في مدة نزولها - و هي ثلاث و عشرون سنة - لكليات تعاليمه مواد أولية حتى إذا عمل بشيء منها أخذ صورة العمل الواقع مادة لتعليمهم ثانيا فألقاها إليهم بعد إصلاح الفاسد من أجزائه و تركيبه بالصحيح الباقي، و ذم الفاسد، و الثناء على الصحيح المستقيم و الوعد الجميل و الشكر الجزيل لفاعله، فكتاب الله العزيز كتاب علم و عمل لا كتاب فرض و تقدير، و لا كتاب تعمية و تقليد.

فمثله مثل المعلم يلقي إلى تلامذته الكليات العلمية في أوجز بيان و أقصر لفظ و يأمرهم بالعمل بها ثم يأخذ ما عملوه ثانيا و يحلله إلى أوائل أجزائه من صحيح و فاسد فيبين لهم موارد النقص و القصور مشفعة بالعظة و الوعيد، و يمدح موارد الاستقامة و الصحة و يقارنها بالوعد و الشكر و يأمرهم بالعمل ثانيا، و هذا فعاله حتى يكملوا في فنهم و يسعدوا في جدهم.

و هذا الذي ذكرناه من الحقائق القرآنية اللائحة للمتدبر الدقيق في بادىء مرة فتراه سبحانه ينزل كليات الجهاد مثلا في آياته بادىء مرة: كتب عليكم القتال الآيات: «البقرة» 216 و يأمر المؤمنين به فيها ثم يأخذ قصة بدر ثانيا و يأمرهم بما يبين لهم فيها ثم قصة أحد ثم قصة أخرى و هكذا، و تراه سبحانه يقص قصص السابقين من الأنبياء و أممهم ثم يجعلها بعد إصلاحها و بيان وجه الحق فيها عبرة للاحقين و دستورا لعملهم و هكذا، و قد نزل في هذه الآيات من هذا القبيل قوله: فسيروا في الأرض الآية، و قوله: و كأين من نبي الآيات.

قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربوا» إلى آخر الآيات الثلاث قد مر سابقا وجه إطلاق الأكل و إرادة الأخذ، و قوله: أضعافا مضاعفة يشير إلى الوصف الغالب في الربا فإنه بحسب الطبع يتضاعف فيصير المال أضعافا مضاعفة بإنفاد مال الغير و ضمه إلى رأس المال الربوي.

و في قوله: و اتقوا النار التي أعدت للكافرين، إشارة إلى كفر آكل الربا كما مر في سورة البقرة في آيات الربا: و الله لا يحب كل كفار أثيم: «البقرة: 276».

قوله تعالى: «سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة»، المسارعة هي الاشتداد في السرعة و هي ممدوحة في الخيرات، و مذمومة في الشرور.

و قد قورن في القرآن الكريم المغفرة بالجنة في غالب الموارد، و ليس إلا لأن الجنة دار طهارة لا يدخل فيها قذارات المعاصي و الذنوب و أدرانها، و لا من تقذر بها إلا بعد المغفرة و الإزالة.

و المغفرة و الجنة المذكورتان في هذه الآية تحاذيان ما في الآيتين التاليتين، أما المغفرة فتحاذي ما في قوله: و الذين إذا فعلوا فاحشة، و أما الجنة فتحاذي ما في قوله: الذين ينفقون في السراء و الضراء.

و أما قوله: جنة عرضها السموات و الأرض، فالمراد بالعرض السعة و هو استعمال شائع، و كان التعبير كناية عن بلوغها في السعة غايتها أو ما لا يحدها الوهم البشري، و له معنى آخر سنشير إليه في البحث الروائي الآتي.

و قوله: أعدت للمتقين كالتوطئة لذكر ما يذكره بعد من أوصاف المتقين، فإن الغرض هو بيان الأوصاف التي ترتبط بحال المؤمنين في المقام أعني عند نزول هذه الآيات و قد نزلت بعد غزوة أحد و قد جرى عليهم و منهم ما جرى من الضعف و الوهن و المخالفة، و هم مع ذلك مشرفون على غزوات أخر مثلها، و حوادث تشابهها، و بهم حاجة إلى الاتحاد و الاتفاق و التلاؤم.

قوله تعالى: «الذين ينفقون في السراء و الضراء» إلى آخر الآية السراء و الضراء ما يسر الإنسان و ما يسوؤه أو اليسر و العسر، و الكظم في الأصل هو شد رأس القربة بعد ملئها فاستعير للإنسان إذا امتلأ حزنا أو غضبا، و الغيظ هيجان الطبع للانتقام بمشاهدة كثرة ما لا يرتضيه، بخلاف الغضب فهو إرادة الانتقام أو المجازاة، و لذلك يقال: غضب الله و لا يقال: اغتاظ.

و في قوله: و الله يحب المحسنين، إشارة إلى أن ما ذكره من الأوصاف معرف لهم، و إنما هو معرف للمحسنين في جنب الناس بالإحسان إليهم، و أما في جنب الله فمعرفهم ما في قوله تعالى: و بشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون الآيات: «الأحقاف: 13» بل هذا الإحسان المذكور في هذه الآيات هو المحتد للمذكور في قوله: الذين ينفقون في السراء و الضراء، الآية فإن الإنفاق و نحوه إذا لم يكن لوجه الله لم يكن له منزلة عند الله سبحانه على ما يدل عليه قوله تعالى فيما سبق من الآيات: مثل ما ينفقون في هذه الحيوة الدنيا الآية و غيره.

و يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت - 69، فإن هذا الجهاد هو بذل الجهد و لا يكون إلا فيما يخالف هوى النفس و مقتضى الطبع، و لا يكون إلا إذا كان عندهم إيمان بأمور يقتضي الجري على مقتضاها، و الثبات عليها مقاومة بإزاء ما يحبه طبع الإنسان و تشتهيه نفسه، و لازمه بحسب القول و الاعتقاد أن يكونوا قائلين ربنا الله و هم مستقيمون عليه، و بحسب العمل أن يقيموا هذا القول بالجهاد في عبادة الله فيما بينهم و بين الله، و بالإنفاق و حسن العشرة فيما بينهم و بين الناس، فتحصل مما ذكرنا أن الإحسان إتيان الأعمال على وجه الحسن من جهة الاستقامة و الثبات على الإيمان بالله سبحانه.

قوله تعالى: الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم» إلى قوله: «و نعم أجر العاملين» الفاحشة ما تتضمن الفحش و القبيح من الأفعال، و شاع استعماله في الزنا، فالمراد بالظلم بقرينة المقابلة سائر المعاصي الكبيرة و الصغيرة، أو خصوص الصغائر على تقدير أن يراد بالفاحشة المنكر من المعاصي و هي الكبائر، و في قوله: ذكروا الله إلخ دلالة على أن الملاك في الاستغفار أن يدعو إليه ذكر الله تعالى دون مجرد التلفظ باعتياد و نحوه، و قوله: و من يغفر الذنوب إلا الله تشويق و إيقاظ لقريحة اللواذ و الالتجاء في الإنسان.

و قوله: و لم يصروا على ما فعلوا و هم يعلمون، إنما قيد به الاستغفار لأنه يورث في النفس هيئة لا ينفع معه ذكر مقام الرب تعالى و هي الاستهانة بأمر الله، و عدم المبالاة بهتك حرماته، و الاستكبار عليه تعالى، و لا تبقى معه عبودية و لا ينفع معه ذكر، و لذلك بعينه قيده بقوله: و هم يعلمون، و هذه قرينة على كون الظلم في صدر الآية يشمل الصغائر أيضا، و ذلك أن الإصرار على الذنب يستوجب الاستهانة بأمر الله و التحقير لمقامه سواء كان الذنب المذكور من الصغائر أو الكبائر، فقوله: ما فعلوا أعم من الكبيرة، و المراد بما فعلوا هو الذي ذكر في صدر الآية، و إذ ليست الصغيرة فاحشة فهو ظلم النفس لا محالة.

و قوله: أولئك جزاؤهم مغفره بيان لأجرهم الجزيل، و ما ذكره تعالى في هذه الآية هو عين ما أمر بالمسارعة إليه في قوله: و سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة إلخ و من ذلك يعلم أن الأمر إنما كان بالمسارعة إلى الإنفاق و كظم الغيظ و العفو عن الناس و الاستغفار.

قوله تعالى: «قد خلت من قبلكم سنن فسيروا»، السنن جمع سنة و هي الطريقة المسلوكة في المجتمع، و الأمر بالسير في الأرض لمكان الاعتبار بآثار الماضين من الأمم الغابرة، و الملوك و الفراعنة الطاغية حيث لم ينفعهم شواهق قصورهم، و لا ذخائر كنوزهم، و لا عروشهم و لا جموعهم، و قد جعلهم الله أحاديث يعتبر بها المعتبرون، و يتفكه بها المغفلون.

و أما حفظ آثارهم و كلاءة تماثيلهم و الجهد في الكشف عن عظمتهم و مجدهم الظاهر الدنيوي الذي في أيامهم فمما لا يعتني به القرآن، فإنما هي الوثنية التي لا تزال تظهر كل حين في لباس، و سنبحث إن شاء الله في هذا المعنى في بحث مستقل نحلل فيه معنى الوثنية.

قوله تعالى: «هذا بيان للناس» الآية التقسيم باعتبار التأثير فهو بلاغ و إبانة لبعض و هدى و موعظة لآخرين.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: جنة عرضها السموات و الأرض،: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل إذا كانت الجنة عرضها السماوات و الأرض فأين تكون النار؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟ أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور، عن التنوخي في كتاب جاء به من هرقل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله عن هذه الآية فأجاب عنها بذلك، و رواه أيضا بطريق آخر عن أبي هريرة: أن رجلا سأله عن ذلك فأجاب بذلك.

و ما فسر كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن المراد كون النار في علم الله تعالى - كما أن الليل عند مجيء النهار في علم الله تعالى - فإن أريد أن النار لا يعزب عن علمه تعالى فمن المعلوم أن هذا الجواب لا يدفع الإشكال فإن السؤال إنما هو عن مكان النار لا عن علم الله تعالى بها، و إن أريد أن من الممكن أن يكون هناك مكان آخر وراء السماوات و الأرض تكون النار متمكنة فيها فهو و إن لم يكن مستبعدا في نفسه لكن مقايسة الجنة و النار بالنهار و الليل حينئذ لا تكون في محلها، فإن الليل لا يخرج عن حيطة السماوات و الأرض عند مجيء النهار فالحق أنه تفسير غير مرضي.

و أظن أن الرواية ناظرة إلى معنى آخر و توضيحه: أن الآخرة بنعيمها و جحيمها و إن كانت مشابهة للدنيا و لذائذها و آلامها و كذلك الإنسان الحال فيها و إن كان هو الإنسان الذي في الدنيا بعينه على ما هو مقتضى ظواهر الكتاب و السنة غير أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا، فإنما الآخرة دار أبدية و بقاء، و الدنيا دار زوال و فناء، و لذلك كان الإنسان يأكل و يشرب و ينكح و يتمتع في الجنة فلا يعرضه ما يعرض هذه الأفعال في الدنيا، و كذلك الإنسان يحترق بنار الجحيم، و يقاسي الآلام و المصائب في مأكله و مشربه و مسكنه و قرينه في النار و لا يطرأ عليه ما يطرأ عليه معها و هو في الدنيا، و يعمر عمر الأبد و لا يؤثر فيه ذلك كهولة أو شيبا أو هرما و هكذا، و ليس إلا أن العوارض و الطواري المذكورة من لوازم النظام الدنيوي دون مطلق النظام الأعم منه و من النظام الأخروي، فالدنيا دار التزاحم و التمانع دون الآخرة.

و مما يدل عليه أن الذي نجده في ظرف مشاهدتنا من الحوادث الواقعة يغيب عنا إذا شاهدنا غيره ثانيا كحوادث الأمس و حوادث اليوم، و الليل و النهار و غير ذلك، و أما الله سبحانه فلا يغيب عنه هذا الذي نشاهده أولا و يغيب عنا ثانيا و لا الذي نجده بعده و لا مزاحمة بينهما، فالليل و النهار و كذا الحوادث المقارنة لهما متزاحمات متمانعات بحسب نظام المادة و الحركة، و هي بعينها لا تتزاحم و لا تتمانع بحسب نظام آخر، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا: «الفرقان: - 46».

و إذا أمكن ذلك في مثل الليل و النهار و هما متزاحمان جاز في السماوات و الأرض أن تسع ما يساويهما سعة، و تسع مع ذلك شيئا آخر يساويه مقدارا كالجنة و النار مثلا لكن لا بحسب نظام هذه الدار بل بحسب نظام الآخرة، و لهذا نظائر في الأخبار كما ورد: أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، و ما ورد: أن المؤمن يوسع له في قبره مد بصره.

فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟ لظهور أن لو كان المراد أن الله سبحانه لا يجهل الليل إذا علم بالنهار لم يرتبط بالسؤال، و كذا لو كان المراد أن الليل يبقى في الخارج مع مجيء النهار اعترض عليه السائل بأن الليل يبطل مع وجود النهار إذا قيسا إلى محل واحد من مناطق الأرض، و إن اعتبرا من حيث نفسهما فالليل بحسب الحقيقة ظل مخروط حادث من إنارة الشمس، و هو يدور حول الكرة الأرضية بحسب الحركة اليومية فالليل و النهار سائران حول الأرض دائما من غير بطلان و لا عينيه.

و للرواية نظائر بين الروايات كما ورد في تفسير قوله تعالى: ليميز الله الخبيث من الطيب: الأنفال - 37، من قوله (عليه السلام): إذا غابت الشمس فأين يصير هذا الشعاع المنبسط على الأرض؟ الحديث، و سيجيء البحث عنها.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس الآية: أخرج البيهقي عن علي بن الحسين أن جارية جعلت تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه فرفع رأسه إليها، فقالت: إن الله يقول: و الكاظمين الغيظ، قال: قد كظمت غيظي، قالت: و العافين عن الناس، قال: قد عفا الله عنك، قالت و الله يحب المحسنين، قال: اذهبي فأنت حرة.

أقول: و هو مروي من طرق الشيعة أيضا، و ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) يفسر الإحسان بما يزيد على هذه الصفات و هو كذلك بحسب إطلاق مفهومه غير أن الصفات المذكورة قبله من لوازم معناه فمن الممكن أن يعرف بها الإحسان.

و اعلم أن هناك روايات كثيرة جدا في حسن الخلق و سائر الأخلاق الفاضلة كالإنفاق و الكظم و العفو و نحوها واردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أخرنا إيرادها إلى محل آخر أنسب لها.

و في المجالس، عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي: أن قوله تعالى: و الذين إذا فعلوا فاحشة «إلخ» نزل في بهلول النباش، و كان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها و نزع أكفانها و كانت بيضاء جميلة فسول له الشيطان فزنى بها ثم ندم فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرده، ثم اعتزل الناس و انقطع عنهم يتعبد و يتبتل في بعض جبال المدينة حتى قبل الله توبته و نزل فيه القرآن.

أقول: و الرواية مفصلة نقلناها ملخصة، و لو صحت الرواية لكانت سببا آخر لنزول الآية غير السبب الواحد الشامل لمجموع آيات القصة.

و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: و لم يصروا على ما فعلوا الآية قال: الإصرار أن يذنب المذنب فلا يستغفر الله و لا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال إبليس: يا رب و عزتك لا أزال أغوي بني آدم ما كانت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: و عزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال و في كتاب الله نجاة من الردى، و بصيرة من العمى، و شفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار و التوبة قال الله: و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم - ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم و من يغفر الذنوب إلا الله - و لم يصروا على ما فعلوا و هم يعلمون، و قال: و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه - ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، و اشترط معه التوبة و الإقلاع عما حرم الله فإنه يقول: إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه، و بهذه الآية يستدل أن الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلا العمل الصالح و التوبة.

أقول: قد استفاد (عليه السلام) الإقلاع و عدم العود بعد التوبة من نفي الإصرار، و كذا احتياج التوبة و الاستغفار إلى صالح العمل بعده من عموم الكلم الطيب في قوله: إليه يصعد الكلم الطيب الآية.

و في المجالس، عن الصادق (عليه السلام) قال لما نزلت هذه الآية: و الذين إذا فعلوا فاحشة، صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا له: يا سيدنا لم تدعونا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا فقال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذاك فقال: لست لها، فقال الوسواس الخناس: أنا لها قال: بما ذا؟ قال أعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة.

أقول: و الرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا.