سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ

١٦٥ - ١٧١

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٦٥ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٦٦ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴿١٦٧ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿١٦٨ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴿١٦٩ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿١٧٠ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٧١

بيان

الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، و فيه تعرض لحال عدة من المنافقين خذلوا جماعة المؤمنين عند خروجهم من المدينة إلى أحد، و فيها جواب ما قالوه في المقتولين، و وصف حال المستشهدين بعد القتل و أنهم منعمون في حضرة القرب يستبشرون بإخوانهم من خلفهم.

قوله تعالى: «أ و لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها» لما نهاهم أن يكونوا كالذين كفروا في التحزن لقتلاهم و التحسر عليهم ببيان أن أمر الحياة و الموت إلى الله وحده لا إليهم حتى يدورا مدار قربهم و بعدهم و خروجهم إلى القتال أو قعودهم عنه رجع ثانيا إلى بيان سببه القريب على ما جرت عليه سنة الأسباب، فبين أن سببه إنما هو المعصية الواقعة يوم أحد منهم و هو معصية الرماة بتخلية مراكزهم، و معصية من تولى منهم عن القتال بعد ذلك، و بالجملة سببه معصيتهم الرسول - و هو قائدهم - و فشلهم و تنازعهم في الأمر و ذلك سبب للانهزام بحسب سنة الطبيعة و العادة.

فالآية في معنى قوله: أ تدرون من أين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها؟ إنما أصابتكم من عند أنفسكم و هو إفسادكم سبب الفتح و الظفر بأيديكم و مخالفتكم قائدكم و فشلكم و اختلاف كلمتكم.

و قد وصفت المصيبة بقوله: قد أصبتم مثليها و هو إشارة إلى مقايسة ما أصابهم الكفار يوم أحد، و هو قتل سبعين رجلا منهم بما أصابوا الكفار يوم بدر و هو مثلا السبعين فإنهم قتلوا منهم يوم بدر سبعين رجلا و أسروا سبعين رجلا.

و في هذا التوصيف تسكين لطيش قلوبهم و تحقير للمصيبة فإنهم أصيبوا من أعدائهم بنصف ما أصابوهم فلا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يجزعوا.

و قيل: إن معنى الآية: أنكم أنفسكم اخترتم هذه المصيبة، و ذلك أنهم اختاروا الفداء من الأسرى يوم بدر، و كان الحكم فيهم القتل، و شرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا: رضينا فإنا نأخذ الفداء و ننتفع به، و إذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء.

و يؤيد هذا الوجه بل يدل عليه ما ذيل به الآية أعني قوله: إن الله على كل شيء قدير إذ لا تلائم هذه الفقرة الوجه السابق البتة إلا بتعسف، و سيجيء روايته عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في البحث الروائي الآتي.

قوله تعالى: «و ما أصابكم يوم التقى الجمعان» إلى آخر الآيتين، الآية الأولى تؤيد ما تقدم أن المراد بقوله: قل هو من عند أنفسكم، اختيارهم الفداء من أسرى يوم بدر، و شرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فإصابة هذه المصيبة بإذن الله، و أما الوجه الأول المذكور و هو أن المعنى أن سبب إصابة المصيبة القريب هو مخالفتكم فلا تلاؤم ظاهرا بينه و بين نسبة المصيبة إلى إذن الله و هو ظاهر.

فعلى ما ذكرنا يكون ذكر استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البيان لقوله: هو من عند أنفسكم، و ليكون توطئة لانضمام قوله: و ليعلم المؤمنين، و بانضمامه يتمهد الطريق للتعرض لحال المنافقين و ما تكلموا به و جوابه و بيان حقيقة هذا الموت الذي هو القتل في سبيل الله.

و قوله: أو ادفعوا أي لو لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن حريمكم و أنفسكم و قوله: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، اللام بمعنى إلى فهذا حالهم بالنسبة إلى الكفر الصريح، و أما النفاق فقد واقعوه بفعلهم ذلك.

و قوله: «يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم»، ذكر الأفواه للتأكيد و للتقابل بينها و بين القلوب.

قوله تعالى: «الذين قالوا لإخوانهم و قعدوا لو أطاعونا ما قتلوا»، المراد بإخوانهم إخوانهم في النسب و هم القتلى، و إنما ذكر إخوتهم لهم ليكون مع انضمام قوله: و قعدوا أوقع تعيير و تأنيب عليهم فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتى أصابهم ما أصابهم من القتل الذريع، و قوله: قل فادرءوا جواب عن قولهم ذاك، و الدرء: الدفع.

قوله تعالى: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا» الآية، و في الآية التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الوجه فيه ما تكرر ذكره في تضاعيف هذه الآيات، و يحتمل أن يكون الخطاب تتمة الخطاب في قوله: قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.

و المراد بالموت بطلان الشعور و الفعل، و لذا ذكرهما في قوله: بل أحياء «إلخ» حيث ذكر الارتزاق و هو فعل، و الفرح الاستبشار و معهما شعور.

قوله تعالى: فرحين بما ءاتاهم الله الآية، الفرح ضد الحزن و، البشارة و البشرى ما يسرك من الخبر و الاستبشار طلب السرور بالبشرى، و المعنى: أنهم فرحون بما وجدوه من الفضل الإلهي الحاضر المشهود عندهم، و يطلبون السرور بما يأتيهم من البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

و من ذلك يظهر أولا أن هؤلاء المقتولين في سبيل الله يأتيهم و يتصل بهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا.

و ثانيا أن هذه البشرى هي ثواب أعمال المؤمنين و هو أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و ليس ذلك إلا بمشاهدتهم هذا الثواب في دارهم التي هم فيها مقيمون فإنما شأنهم المشاهدة دون الاستدلال ففي الآية دلالة على بقاء الإنسان بعد الموت ما بينه و بين يوم القيامة، و قد فصلنا القول فيه في الكلام على نشأة البرزخ في ذيل قوله تعالى: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية: «البقرة: 154».

قوله تعالى: «يستبشرون بنعمة من الله و فضل» الآية، هذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال غيرهم و بحال أنفسهم و الدليل عليه قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين، فإنه بإطلاقه شامل للجميع، و لعل هذه هي النكتة في تكرار الاستبشار و كذا تكرار الفضل فتدبر في الآية.

و قد نكر الفضل و النعمة و أبهم الرزق في الآيات ليذهب ذهن السامع فيها كل مذهب ممكن، و لذا أبهم الخوف و الحزن ليدل في سياق النفي على العموم.

و التدبر في الآيات يعطي أنها في صدد بيان أجر المؤمنين أولا، و أن هذا الأجر رزقهم عند الله سبحانه ثانيا، و أن هذا الرزق نعمة من الله و فضل ثالثا، و أن الذي يشخص هذه النعمة و الفضل هو أنهم لا خوف عليهم و لا هم يحزنون رابعا.

و هذه الجملة أعني قوله: أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون كلمة عجيبة كلما أمعنت في تدبرها زاد في اتساع معناها على لطف و رقة و سهولة بيان، و أول ما يلوح من معناها أن الخوف و الحزن مرفوعان عنهم، و الخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شيء من سعادة الإنسان التي يقدر نفسه واجدة لها، و كذا الحزن إنما يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك، فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم يقع بعد فإذا وقعت زال الخوف و عرض الحزن فلا خوف بعد الوقوع و لا حزن قبله.

فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه النعم في معرض الزوال، و ارتفاع مطلق الحزن إنما يتيسر له إذا لم يفقد شيئا من أنواع سعادته لا ابتداء و لا بعد الوجدان، فرفعه تعالى مطلق الخوف و الحزن عن الإنسان معناه أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به و يستلذه، و أن لا يكون ذلك في معرض الزوال، و هذا هو خلود السعادة للإنسان و خلوده فيها.

و من هنا يتضح أن نفي الخوف و الحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند الله فهو سبحانه يقول: و ما عند الله خير: «آل عمران: 198»، و يقول: و ما عند الله باق: «النحل: 96» فالآيتان تدلان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة و لا يعرضها فناء.

و يتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة و الفضل و هو العطية لكن تقدم في أوائل الكتاب و سيجيء في قوله تعالى: مع الذين أنعم الله عليهم: «النساء: 69»، أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية، و على ذلك فالمعنى: أن الله يتولى أمرهم و يخصهم بعطية منه.

و أما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل، و النعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين فإن الأجر يؤذن بالاستحقاق، و قد عرفت أن هذه الفقرات أعني قوله: عند ربهم يرزقون و قوله: فرحين بما إلخ و قوله: يستبشرون بنعمة إلخ، و قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين مآلها إلى حقيقة واحدة.

و في الآيات أبحاث أخر تقدم بعضها في تفسير قوله: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات: «البقرة: 154»، و لعل الله يوفقنا لاستيفاء ما يسعنا من البحث فيها في ما سيجيء من الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى.