سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ

١٨١ - ١٨٩

لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿١٨١ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿١٨٢ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿١٨٣ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴿١٨٤ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿١٨٥ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴿١٨٦ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴿١٨٧ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿١٨٨ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٨٩

بيان

الآيات مرتبط بما قبلها، فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس و ترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم، و تحذيرهم عن الوهن و الفشل و البخل فيرتبط بها قول اليهود: إن الله فقير و نحن أغنياء، و تقليبهم الأمر على المسلمين، و تكذيبهم آيات الرسالة، و كتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه، و هذه هي التي تتعرض الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة و الصبر و الثبات، و التحريض على الإنفاق في سبيل الله.

قوله تعالى: «لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء» القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء و غير ذلك.

و إنما قالوا ذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا الآية: «البقرة: 245» و يشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة: و لا يحسبن الذين يبخلون، الآية.

أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين و فاقتهم، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم و أغناهم فليس إلا فقيرا و نحن أغنياء.

قوله تعالى: «سنكتب ما قالوا و قتلهم الأنبياء بغير حق» الآية، المراد بالكتابة الحفظ و التثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم، و المآل واحد، و المراد بقتل الأنبياء بغير حق القتل على العرفان و العمد دون السهو و الخطإ و الجهالة، و قد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولا عظيما، و قوله: عذاب الحريق، الحريق النار أو اللهب و قيل: هو بمعنى المحرق.

قوله تعالى: «ذلك بما قدمت أيديكم» الآية، أي بما قدمتم أمامكم من العمل و نسب إلى الأيدي لأنها آلة التقديم غالبا، و قوله: و أن الله ليس بظلام للعبيد عطف على قوله: ما قدمت، و تعليل للكتابة و العذاب، فلو لم يكن ذلك الحفظ و الجزاء لكان إهمالا لأمر نظام الأعمال و في ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال فيكون ظلاما لعباده تعالى عن ذلك.

قوله تعالى: «الذين قالوا إن الله عهد إلينا» الآية، نعت للذين قبله و العهد هو الأمر، و القربان ما يتقرب به من النعم و غيره، و أكل النار كناية عن إحراقها، و المراد بقوله: قد جاءكم رسل من قبلي، أمثال زكريا و يحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم.

قوله تعالى: «فإن كذبوك فقد كذب» الآية، تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تكذيبهم له، و الزبر جمع زبور و هو كتاب الحكم و المواعظ، و قد أريد بالزبر و الكتاب المنير مثل كتاب نوح و صحف إبراهيم و التوراة و الإنجيل.

قوله تعالى: «كل نفس ذائقة الموت»، الآية تتضمن الوعد للمصدق و الوعيد للمكذب و قد بدأ فيها بالحكم العام المقضي في حق كل ذي نفس، و التوفية هو الإعطاء الكامل، و قد استدل بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الإعطاء و أن الذي في يوم القيامة هو الإعطاء الكامل، و هو استدلال حسن، و الزحزحة هو الإبعاد، و أصله تكرار الجذب بعجلة، و الفوز الظفر بالبغية، و الغرور مصدر غر أو هو جمع غار.

قوله تعالى: «لتبلون في أموالكم و أنفسكم» الآية، الإبلاء الاختبار، بعد ما ذكر سبحانه جريان البلاء و الإبلاء على المؤمنين، ثم ذكر قول اليهود و هو مما من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأن هذا الإبلاء الإلهي و الأقاويل المؤذية من أهل الكتاب و المشركين ستتكرر على المؤمنين، و يكثر استقبالها إياهم و قرعها سمعهم فعليهم أن يصبروا و يتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل و الفشل، و يكونوا أرباب عزم و إرادة، و هذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم، و يوطنوا عليه أنفسهم.

و قد وضع في قوله: و لتسمعن إلى قوله: أذى كثيرا، الأذى الكثير موضع القول و هو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثر مجازا.

قوله تعالى: «و إذ أخذ الله ميثاق»، النبذ الطرح، و نبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك و عدم الاعتناء كما أن قولهم: جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الأخذ و اللزوم.

قوله تعالى: «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا إلى آخر الآيتين، أي بما أنعم عليهم من المال و لازمه حب المال و البخل به، و المفازة النجاة و إنما هلك هؤلاء لأن قلوبهم تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم.

ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسماوات و الأرض، و قدرته على كل شيء، و هذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة: في قوله: لقد سمع الله الآية، قال: ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما نزل: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا - فيضاعفه له أضعافا كثيرة، قال: يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.

و في تفسير العياشي،: في الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: و الله ما رأوا الله حتى يعلموا أنه فقير، و لكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا: لو كان غنيا لأغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى.

و في المناقب، عن الباقر (عليه السلام): هم الذين يزعمون أن الإمام يحتاج إلى ما يحملونه إليه.

أقول: أما الروايتان الأوليان فقد تقدم انطباق مضمونهما على الآية، و أما الثالثة فهي من الجري.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين القائلين و القاتلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا.

أقول: ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلادي الموجود فارجع إلى ما تقدم من البحث التاريخي.

و في الدر المنثور، في قوله تعالى: كل نفس ذائقة الموت الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: لما توفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و جاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه و لا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله و بركاته كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء من كل مصيبة و خلفا من كل هالك، و دركا من كل ما فات فبالله فثقوا، و إياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، فقال علي: هذا الخضر.

و فيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا و ما فيها ثم تلا هذه الآية: فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز.

أقول: و رواه فيه ببعض طرق أخر عن غيره، و اعلم أن هنا روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظري.