سُورَةُ الأَحۡقَافِ

١٥ - ٢٠

وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿١٥ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿١٦ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴿١٧ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿١٨ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴿١٩ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴿٢٠

بيان

لما قسم الناس في قوله: «لينذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين» إلى ظالمين و محسنين و أشير فيه إلى أن للظالمين ما يخاف و يحذر و للمحسنين ما يسر الإنسان و يبشر به عقب ذلك في هذا الفصل من الآيات بتفصيل القول فيه، و أن الناس بين قوم تائبين إلى الله مسلمين له و هم الذين يتقبل أحسن أعمالهم و يتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، و قوم خاسرين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس.

و مثل الطائفة الأولى بمن كان مؤمنا بالله مسلما له بارا بوالديه يسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم عليه و على والديه و العمل الصالح و إصلاح ذريته، و الطائفة الثانية بمن كان عاقا لوالديه إذا دعواه إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر فيزجرهما و يعد ذلك من أساطير الأولين.

قوله تعالى: «و وصينا الإنسان بوالديه إحسانا» إلى آخر الآية، الوصية على ما ذكره الراغب هو التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ و التوصية تفعيل من الوصية قال تعالى: «و وصى بها إبراهيم بنيه»: البقرة: 132، فمفعوله الثاني الذي يتعدى إليه بالباء من قبيل الأفعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلق بهما و هو الإحسان إليهما.

و على هذا فتقدير الكلام: و وصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحسانا.

و في إعراب: «إحسانا» أقوال أخر كقول بعضهم: إنه مفعول مطلق على تضمين «وصينا» معنى أحسنا، و التقدير: وصينا الإنسان محسنين إليهما إحسانا، و قول بعضهم: إنه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، و قول بعضهم: هو مفعول له، و التقدير: وصيناه بهما لإحساننا إليهما، إلى غير ذلك مما قيل.

و كيف كان فبر الوالدين و الإحسان إليهما من الأحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع كما تقدم في تفسير قوله تعالى: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا»: الأنعام: 151، و لذلك قال: «و وصينا الإنسان» فعممه لكل إنسان.

ثم عقبه سبحانه بالإشارة إلى ما قاسته أمه في حمله و وضعه و فصاله إشعارا بملاك الحكم و تهييجا لعواطفه و إثارة لغريزة رحمته و رأفته فقال: «حملته أمه كرها و وضعته كرها و حمله و فصاله ثلاثون شهرا» أي حملته أمه حملا ذا كره أي مشقة و ذلك لما في حمله من الثقل، و وضعته وضعا ذا كره و ذلك لما عنده من ألم الطلق.

و أما قوله: «و حمله و فصاله ثلاثون شهرا» فقد أخذ فيه أقل مدة الحمل و هو ستة أشهر، و الحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهرا مدة الرضاع، قال تعالى: «و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين»: البقرة: 233، و قال: «و فصاله في عامين»: لقمان: 14.

و الفصال التفريق بين الصبي و بين الرضاع، و جعل العامين ظرفا للفصال بعناية أنه في آخر الرضاع و لا يتحقق إلا بانقضاء عامين.

و قوله: «حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة» بلوغ الأشد بلوغ زمان من العمر تشتد فيه قوى الإنسان، و قد مر نقل اختلافهم في معنى بلوغ الأشد في تفسير قوله: «و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما»: يوسف: 22، و بلوغ الأربعين ملازم عادة لكمال العقل.

و قوله: «قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي و أن أعمل صالحا ترضاه» الإيزاع الإلهام، و هذا الإلهام ليس بإلهام علم يعلم به الإنسان ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها»: الشمس: 8، بل هو إلهام عملي بمعنى البعث و الدعوة الباطنية إلى فعل الخير و شكر النعمة و بالجملة العمل الصالح.

و قد أطلق النعمة التي سأل إلهام الشكر عليها فتعم النعم الظاهرية كالحياة و الرزق و الشعور و الإرادة، و الباطنية كالإيمان بالله و الإسلام و الخشوع له و التوكل عليه و التفويض إليه ففي قوله: «رب أوزعني أن أشكر نعمتك» إلخ، سؤال أن يلهمه الثناء عليه بإظهار نعمته قولا و فعلا: أما قولا فظاهر، و أما فعلا فباستعمال هذه النعم استعمالا يظهر به أنها لله سبحانه أنعم بها عليه و ليست له من قبل نفسه و لازمه ظهور العبودية و المملوكية من هذا الإنسان في قوله و فعله جميعا.

و تفسير النعمة بقوله: «التي أنعمت علي و على والدي» يفيد شكره من قبل نفسه على ما اختص به من النعمة و من قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر لهما بعدهما.

و قوله: «و أن أعمل صالحا ترضاه» عطف على قوله: «أن أشكر» إلخ، سؤال متمم لسؤال الشكر على النعم فإن الشكر يحلي ظاهر الأعمال، و الصلاحية التي يرتضيها الله تعالى تحلي باطنها و تخلصها له تعالى.

و قوله: «و أصلح لي في ذريتي» الإصلاح في الذرية إيجاد الصلاح فيهم و هو من الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح و ينجر إلى إصلاح نفوسهم، و تقييد الإصلاح بقوله: «لي» للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذريته له في بره و إحسانه كما كان هو لوالديه.

و محصل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته و صالح العمل و أن يكون بارا محسنا بوالديه و يكون ذريته له كما كان هو لوالديه، و قد تقدم غير مرة أن شكر نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصا لله فيئول معنى الدعاء إلى سؤال خلوص النفس و صلاح العمل.

و قوله: «إني تبت إليك و إني من المسلمين» أي الذين يسلمون الأمر لك فلا تريد شيئا إلا أرادوه بل لا يريدون إلا ما أردت.

و الجملة في مقام التعليل لما يتضمنه الدعاء من المطالب، و يتبين بالآية حيث ذكر الدعاء و لم يرده بل أيده بما وعد في قوله: «أولئك الذين نتقبل عنهم» إلخ، إن التوبة و الإسلام لله سبحانه إذا اجتمعا في العبد استعقب ذلك الهامة تعالى بما يصير به العبد من المخلصين - بفتح اللام - ذاتا و المخلصين - بكسر اللام - عملا أما إخلاص الذات فقد تقدمت الإشارة إليه آنفا، و أما إخلاص العمل فلأن العمل لا يكون صالحا لقبوله تعالى مرفوعا إليه إلا إذا كان خالصا لوجهه الكريم، قال تعالى: «ألا لله الدين الخالص»: الزمر: 3.

قوله تعالى: «أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا و نتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة» إلخ، التقبل أبلغ من القبول، و المراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من الواجبات و المندوبات فإنها هي المقبولة المتقبلة و أما المباحات فإنها و إن كانت ذات حسن لكنها ليست بمتقبلة، كذا ذكر في مجمع البيان و هو تفسير حسن و يؤيده مقابلة تقبل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيئات فكأنه قيل: إن أعمالهم طاعات من الواجبات و المندوبات و هي أحسن أعمالهم فنتقبلها و سيئات فنتجاوز عنها و ما ليس بطاعة و لا حسنة فلا شأن له من قبول و غيره.

و قوله: «في أصحاب الجنة» متعلق بقوله: «نتجاوز» أي نتجاوز عن سيئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيئاتهم من أصحاب الجنة، فهو حال من ضمير «عنهم».

و قوله: «وعد الصدق الذي كانوا يوعدون» أي يعدهم الله بهذا الكلام وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه إلى هذا الحين بلسان الأنبياء و الرسل، أو المراد أنه ينجز لهم بهذا التقبل و التجاوز يوم القيامة وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه في الدنيا.

قوله تعالى: «و الذي قال لوالديه أف لكما أ تعدانني أن أخرج و قد خلت القرون من قبلي» لما ذكر الإنسان الذي تاب إلى الله و أسلم له و سأله الخلوص و الإخلاص و بر والديه و إصلاح أولاده له قابله بهذا الإنسان الذي يكفر بالله و رسوله و المعاد و يعق والديه إذا دعواه إلى الإيمان و أنذراه بالمعاد.

فقوله: «و الذي قال لوالديه أف لكما» الظاهر أنه مبتدأ في معنى الجمع و خبره قوله بعد: «أولئك الذين» إلخ، و «أف» كلمة تبرم يقصد بها إظهار التسخط و التوجع و «أ تعدانني أن أخرج» الاستفهام للتوبيخ، و المعنى: أ تعدانني أن أخرج من قبري فأحيا و أحضر للحساب أي أ تعدانني المعاد «و قد خلت القرون من قبلي» أي و الحال أنه هلكت أمم الماضون العائشون من قبلي و لم يحي منهم أحد و لا بعث.

و هذا على زعمهم حجة على نفي المعاد و تقريره أنه لو كان هناك إحياء و بعث لأحيي بعض من هلك إلى هذا الحين و هم فوق حد الإحصاء عددا في أزمنة طويلة لا أمد لها و لا خبر عنهم و لا أثر و لم يتنبهوا أن القرون السالفة لو عادوا كما يقولون كان ذلك بعثا لهم و إحياء في الدنيا و الذي وعده الله سبحانه هو البعث للحياة الآخرة و القيام لنشأة أخرى غير الدنيا.

و قوله: «و هما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق» الاستغاثة طلب الغوث من الله أي و الحال أن والديه يطلبان من الله أن يغيثهما و يعينهما على إقامة الحجة و استمالته إلى الإيمان و يقولان له: ويلك آمن بالله و بما جاء به رسوله و منه وعده تعالى بالمعاد إن وعد الله بالمعاد من طريق رسله حق.

و منه يظهر أن مرادهما بقولهما: «آمن» هو الأمر بالإيمان بالله و رسوله فيما جاء به من عند الله، و قولهما: «إن وعد الله حق» المراد به المعاد، و تعليل الأمر بالإيمان به لغرض الإنذار و التخويف.

و قوله: «فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين» الإشارة بهذا إلى الوعد الذي ذكراه و أنذراه به أو مجموع ما كانا يدعوانه إليه و المعنى: فيقول هذا الإنسان لوالديه ليس هذا الوعد الذي تنذرانني به أو ليس هذا الذي تدعوانني إليه إلا خرافات الأولين و هم الأمم الأولية الهمجية.

قوله تعالى: «أولئك الذين حق عليهم القول» إلخ، تقدم بعض الكلام فيه في تفسير الآية 25 من سورة حم السجدة.

قوله تعالى: «و لكل درجات مما عملوا» إلى آخر الآية أي لكل من المذكورين و هم المؤمنون البررة و الكافرون الفجرة منازل و مراتب مختلفة صعودا و حدورا فللجنة درجات و للنار دركات.

و يعود هذا الاختلاف إلى اختلافهم في أنفسهم و إن كان ظهوره في أعمالهم و لذلك قال: «لكل درجات مما عملوا» فالدرجات لهم و منشؤها أعمالهم.

و قوله: «و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون» اللام للغاية و الجملة معطوفة على غاية أو غايات أخرى محذوفة لم يتعلق بذكرها غرض، و إنما جعلت غاية لقوله: «لكل درجات» لأنه في معنى و جعلناهم درجات، و المعنى: جعلناهم درجات لكذا و كذا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون.

و معنى توفيتهم أعمالهم إعطاؤهم نفس أعمالهم فالآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال، و قيل: الكلام على تقدير مضاف و التقدير و ليوفيهم أجور أعمالهم.

قوله تعالى: «و يوم يعرض الذين كفروا على النار» إلخ، عرض الماء على الدابة و للدابة وضعه بمرأى منها بحيث إن شاءت شربته، و عرض المتاع على البيع وضعه موضعا لا مانع من وقوع البيع عليه.

و قوله: «و يوم يعرض الذين كفروا على النار» قيل: المراد بعرضهم على النار تعذيبهم فيها من قولهم: عرض فلان على السيف إذا قتل و هو مجاز شائع.

و فيه أن قوله في آخر السورة «و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا قال فذوقوا العذاب» لا يلائمه تلك الملاءمة حيث فرع ذوق العذاب على العرض فهو غيره.

و قيل: إن في الآية قلبا و الأصل عرض النار على الذين كفروا لأن من الواجب في تحقق معنى العرض أن يكون في المعروض عليه شعور بالمعروض و النار لا شعور لها بالذين كفروا بل الأمر بالعكس ففي الكلام قلب، و المراد عرض النار على الذين كفروا.

و وجهه بعض المفسرين بأن المناسب أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه كما في قولنا: عرضت الماء على الدابة و عرضت الطعام على الضيف، و لما كان الأمر في عرض النار على الذين كفروا بالعكس فإنهم هم المسيرون إلى النار فقلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار.

و فيه نظر أما ما ذكر من أن المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور و إدراك بالمعروض حتى يرغب إليه أو يرغب عنه و النار لا شعور لها ففيه أولا: أنه ممنوع كما يؤيده قولهم: عرضت المتاع على البيع، و قوله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال»: الأحزاب: 72، و ثانيا: أنا لا نسلم خلو نار الآخرة عن الشعور، ففي الأخبار الصحيحة أن للجنة و النار شعورا و يشعر به قوله: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزيد»: ق: 30، و غيره من الآيات.

و أما ما قيل من أن المناسب تحريك المعروض إلى المعروض عليه فلا نسلم لزومه و لا اطراده فهو منقوض بقوله: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض» الآية:، الأحزاب: 72.

على أن في كلامه تعالى ما يدل على الإتيان بالنار إلى الذين كفروا كقوله: «و جيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان و أنى له الذكرى»: الفجر: 23.

فالحق أن العرض و هو إظهار عدم المانع من تلبس شيء بشيء معنى له نسبة إلى الجانبين يمكن أخذ كل منهما أصلا معروضا عليه و الآخر فرعا معروضا فتارة تؤخذ النار معروضة على الكافرين بعناية أن لا مانع من عمل صالح أو شفاعة تمنع من دخولهم فيها كقوله تعالى: «و عرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا»: الكهف: 100، و تارة يؤخذ الكفار معروضين للنار بعناية أن لا مانع يمنع النار أن تعذبهم، كما في قوله: «النار يعرضون عليها غدوا و عشيا»: المؤمن: 36، و قوله: «يعرض الذين كفروا على النار» الآية.

و على هذا فالأشبه تحقق عرضين يوم القيامة: عرض جهنم للكافرين حين تبرز لهم ثم عرضهم على جهنم بعد الحساب و القضاء الفصل بدخولهم فيها حين يساقون إليها، قال تعالى: «و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا»: الزمر: 71.

و قوله: «أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها» على تقدير القول أي يقال لهم: «أذهبتم» إلخ، و الطيبات الأمور التي تلائم النفس و توافق الطبع و يستلذ بها الإنسان، و إذهاب الطيبات إنفادها بالاستيفاء لها، و المراد بالاستمتاع بها استعمالها و الانتفاع بها لنفسها لا للآخرة و التهيؤ لها.

و المعنى: يقال لهم حين عرضهم على النار: أنفذتم الطيبات التي تلتذون بها في حياتكم الدنيا و استمتعتم بتلك الطيبات فلم يبق لكم شيء تلتذون به في الآخرة.

و قوله: «فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق و بما كنتم تفسقون» تفريع على إذهابهم الطيبات، و عذاب الهون العذاب الذي فيه الهوان و الخزي.

و المعنى: فاليوم تجزون العذاب الذي فيه الهوان و الخزي قبال استكباركم في الدنيا عن الحق و قبال فسقكم و توليكم عن الطاعات، و هما ذنبان أحدهما متعلق بالاعتقاد و هو الاستكبار عن الحق و الثاني متعلق بالعمل و هو الفسق.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن المنذر من طريق قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر فسأل عنها أصحاب النبي فقال علي: لا رجم عليها أ لا ترى أنه يقول: و حمله و فصاله ثلاثون شهرا، و قال: و فصاله في عامين، و كان الحمل هاهنا ستة أشهر فتركها عمر. قال: ثم بلغنا أنها ولدت آخر لستة أشهر:. أقول: و روى القصة المفيد في الإرشاد،.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له تماما لستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فأمر برجمها فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر و هل يكون ذلك؟ قال علي: أ ما سمعت الله تعالى يقول: و حمله و فصاله ثلاثون شهرا و قال: حولين كاملين فكم تجده بقي إلا ستة أشهر؟. فقال عثمان: و الله ما فطنت لهذا. علي بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها، و كان من قولها لأختها: لا تحزني فو الله ما كشف فرجي أحد قط غيره. قال: فشب الغلام بعد فاعترف الرجل به و كان أشبه الناس به. قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضوا عضوا على فراشه.

و في التهذيب، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله أبي و أنا حاضر عن قول الله عز و جل: «حتى إذا بلغ أشده» قال: الاحتلام.

و في الخصال، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا بلغ العبد ثلاثا و ثلاثين سنة فقد بلغ أشده، و إذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في إحدى و أربعين فهو في النقصان، و ينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع.

أقول: لا تخلو الرواية من إشعار بكون بلوغ الأشد مما يختلف بالمراتب فيكون الاحتلام و هو غالبا في الست عشرة أول مرتبة منها و الثلاث و الثلاثين و هي بعد مضي ست عشرة أخرى المرتبة الثانية، و قد تقدم في نظيره الآية من سورة يوسف بعض أخبار أخر.

و اعلم أنه قد وردت في الآية أخبار تطبقها على الحسين بن علي (عليهما السلام) و ولادته لستة أشهر و هي من الجري.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن عبد الله قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا و إن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر و عمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أ هرقلية؟ إن أبا بكر و الله ما جعلها في أحد من ولده و لا أحد من أهل بيته و لا جعلها معاوية إلا رحمة و كرامة لولده. فقال مروان: أ لست الذي قال لوالديه: أف لكما؟ فقال عبد الرحمن: أ لست ابن اللعين الذي لعن أباك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟. قال: و سمعتها عائشة فقالت: يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا و كذا؟ كذبت و الله ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان.

و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: في الذي قال لوالديه أف لكما الآية، قال: هذا ابن لأبي بكر: أقول: و روي ذلك أيضا عن قتادة و السدي، و قصة رواية مروان و تكذيب عائشة له مشهورة.

قال في روح المعاني بعد رد رواية مروان: و وافق بعضهم كالسهيلي في الأعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن، و على تسليم ذلك لا معنى للتعيير لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم و كان من أفاضل الصحابة و أبطالهم، و كان له في الإسلام عناء يوم اليمامة و غيره، و الإسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعير بما كان يقول.

انتهى.

و فيه أن الروايات لو صحت لم يكن مناص عن صريح شهادة الآية عليه بقوله: «أولئك الذين حق عليهم القول - إلى قوله - إنهم كانوا خاسرين» و لم ينفع شيء مما دافع عنه به.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و يوم يعرض الذين كفروا إلى قوله و استمتعتم بها» قال: أكلتم و شربتم و ركبتم، و هي في بني فلان «فاليوم تجزون عذاب الهون» قال: العطش.

و في المحاسن، بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: أتي يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخبيص فأبى أن يأكله فقيل: أ تحرمه؟ فقال: لا و لكني أكره أن تتوق إليه نفسي ثم تلا الآية «أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا».

و في المجمع، في الآية و قد روي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم و إنه لمضطجع على حفصة و إن بعضه على التراب و تحت رأسه وسادة محشوة ليفا فسلمت عليه ثم جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبي الله و صفوته و خيرته من خلقه و كسرى و قيصر على سرير الذهب و فرش الحرير و الديباج! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أولئك قوم عجلت طيباتهم و هي وشيكة الانقطاع، و إنما أخرت لنا طيباتنا:. أقول: و رواه في الدر المنثور، بطرق عنه.