سُورَةُ الأَحۡزَابِ

٤٩ - ٦٢

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ﴿٤٩ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الَّلاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ الَّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿٥٠ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ﴿٥١ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ﴿٥٢ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴿٥٣ إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿٥٤ لّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴿٥٥ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿٥٦ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ﴿٥٧ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴿٥٨ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿٥٩ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا ﴿٦٠ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ﴿٦١ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ﴿٦٢

بيان

تتضمن الآيات أحكاما متفرقة بعضها خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أزواجه و بعضها عامة.

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن و سرحوهن سراحا جميلا» المراد بنكاحهن العقد عليهن بالنكاح، و بالمس الدخول، و بالتمتيع إعطاؤهن شيئا من المال يناسب شأنهن و حالهن و التسريح بالجميل إطلاقهن من غير خصومة و خشونة.

و المعنى: إذا طلقتم النساء بعد النكاح و قبل الدخول فلا عدة لهن للطلاق و يجب تمتيعهن بشيء من المال و السراح الجميل.

و الآية مطلقة تشمل ما إذا فرض لهن فريضة المهر و ما إذا لم يفرض فيقيدها قوله: «و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم»: البقرة: 273، و تبقى حجة فيما لم يفرض لهن فريضة.

قوله تعالى: «يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن» إلى آخر الآية، يذكر سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإحلال سبعة أصناف من النساء: الصنف الأول ما في قوله: «أزواجك اللاتي آتيت أجورهن» و المراد بالأجور المهور، و الثاني ما في قوله: «و ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك» أي من يملكه من الإماء الراجعة إليه من الغنائم و الأنفال، و تقييد ملك اليمين بكونه مما أفاء الله عليه كتقييد الأزواج بقوله: «اللاتي آتيت أجورهن» للتوضيح لا للاحتراز.

و الثالث و الرابع ما في قوله: «و بنات عمك و بنات عماتك» قيل: يعني نساء قريش، و الخامس و السادس ما في قوله: «و بنات خالك و بنات خالاتك» قيل: يعني نساء بني زهرة، و قوله: «اللاتي هاجرن معك» قال في المجمع:، هذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.

و السابع ما في قوله: «و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها» و هي المرأة المسلمة التي بذلت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعنى أن ترضى أن يتزوج بها من غير صداق و مهر فإن الله أحلها له إن أراد أن يستنكحها، و قوله: «خالصة لك من دون المؤمنين» إيذان بأن هذا الحكم - أي حلية المرأة للرجل ببذل النفس - من خصائصه لا يجري في المؤمنين، و قوله بعده: «قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم و ما ملكت أيمانهم» تقرير لحكم الاختصاص.

و قوله: «لكيلا يكون عليك حرج» تعليل لقوله في صدر الآية: «إنا أحللنا لك» أو لما في ذيلها من حكم الاختصاص و الأول أظهر و قد ختمت الآية بالمغفرة و الرحمة.

قوله تعالى: «ترجي من تشاء منهن و تؤوي إليك من تشاء» إلخ، الإرجاء التأخير و التبعيد، و هو كناية عن الرد، و الإيواء: الإسكان في المكان و هو كناية عن القبول و الضم إليه.

و السياق يدل على أن المراد به أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) على خيرة من قبول من وهبت نفسها له أو رده.

و قوله: «و من ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك»، الابتغاء هو الطلب أي و من طلبتها من اللاتي عزلتها و لم تقبلها فلا إثم عليك و لا لؤم أي يجوز لك أن تضم إليك من عزلتها و رددتها من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لك بعد العزل و الرد.

و يمكن أن يكون إشارة إلى أن له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقسم بين نسائه و أن يترك القسم فيؤخر من يشاء منهن و يقدم من يشاء و يعزل بعضهن من القسم فلا يقسم لها أو يبتغيها فيقسم لها بعد العزل و هو أوفق لقوله بعده: «و من ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى - أي أقرب - أن تقر أعينهن - أي يسررن - و لا يحزن و يرضين بما آتيتهن كلهن و الله يعلم ما في قلوبكم» و ذلك لسرور المتقدمة بما قسمت له و رجاء المتأخرة أن تتقدم بعد.

و قوله: «و كان الله عليما حليما» أي يعلم مصالح عباده و لا يعاجل في العقوبة.

و في الآية أقوال مختلفة أخر و الذي أوردناه هو الأوفق لوقوعها في سياق سابقتها متصلة بها و به وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما سيجيء.

قوله تعالى: «لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج و لو أعجبك حسنهن» إلخ، ظاهر الآية لو فرضت مستقلة في نفسها غير متصلة بما قبلها تحريم النساء له (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا من خيرهن فاخترن الله و نفي جواز التبدل بهن يؤيد ذلك.

لكن لو فرضت متصلة بما قبلها و هو قوله: «إنا أحللنا لك» إلخ، كان مدلولها تحريم ما عدا المعدودات و هي الأصناف الستة التي تقدمت.

و في بعض الروايات عن بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بالآية محرمات النساء المعدودة في قوله: «حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم» الآية: النساء: 23.

فقوله: «لا يحل لك النساء من بعد» أي من بعد اللاتي اخترن الله و رسوله و هي التسعة على المعنى الأول أو من بعد من عددناه في قولنا: «إنا أحللنا لك» على المعنى الثاني أو من بعد المحللات و هي المحرمات على المعنى الثالث.

و قوله: «و لا أن تبدل بهن من أزواج» أي أن تطلق بعضهن و تزوج مكانها من غيرهن، و قوله: «إلا ما ملكت يمينك» يعني الإماء و هو استثناء من قوله في صدر الآية «لا يحل لك النساء».

و قوله: «و كان الله على كل شيء رقيبا» معناه ظاهر و فيه تحذير عن المخالفة.

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم - إلى قوله - من الحق» بيان لأدب الدخول في بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: «إلا أن يؤذن لكم» استثناء من النهي، و قوله: «إلى طعام» متعلق بالإذن، و قوله: «غير ناظرين إناه» أي غير منتظرين لورود إناء الطعام بأن تدخلوا من قبل فتطيلوا المكث في انتظار الطعام و يبينه قوله: «و لكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم - أي أكلتم - فانتشروا»، و قوله: «و لا مستأنسين لحديث» عطف على قوله: «غير ناظرين إناه» و هو حال بعد حال، أي غير ماكثين في حال انتظار الإناء قبل الطعام و لا في حال الاستئناس لحديث بعد الطعام.

و قوله: «إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم» تعليل للنهي أي لا تمكثوا كذلك لأن مكثكم ذلك كان يتأذى منه النبي فيستحيي منكم أن يسألكم الخروج و قوله: «و الله لا يستحيي من الحق» أي من بيان الحق لكم و هو ذكر تأذيه و التأديب بالأدب اللائق.

قوله تعالى: «و إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن»، ضمير «هن» لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سؤالهن متاعا كناية عن تكليمهن لحاجة أي إذا مست الحاجة إلى تكليمكم أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلموهن من وراء حجاب، و قوله: «ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن» بيان لمصلحة الحكم.

قوله تعالى: «و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا» إلخ، أي ليس لكم إيذاؤه بمخالفة ما أمرتم في نسائه و في غير ذلك و ليس لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم أي نكاحكم أزواجه من بعده كان عند الله عظيما، و في الآية إشعار بأن بعضهم ذكر ما يشير إلى نكاحهم أزواجه بعده و هو كذلك كما سيأتي في البحث الروائي الآتي.

قوله تعالى: «إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما» معناه ظاهر و هو في الحقيقة تنبيه تهديدي لمن كان يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يذكر نكاح أزواجه من بعده.

قوله تعالى: «لا جناح عليهن في آبائهن» إلى آخر الآية ضمير «عليهن» لنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب و قد استثنى الآباء و الأبناء و الإخوان و أبناء الإخوان و أبناء الأخوات و هؤلاء محارم، قيل: و لم يذكر الأعمام و الأخوال لأنهم من الممكن أن يصفوهن لأبنائهم.

و استثنى أيضا نساءهن و إضافة النساء إلى ضمير هن يلوح إلى أن المراد النساء المؤمنات دون الكوافر كما مر في قوله تعالى: «أو نسائهن»: النور: 31، و استثنى أيضا ما ملكت أيمانهن من العبيد و الإماء.

و قوله: «و اتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا» فيه تأكيد الحكم و خاصة من جهة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في «اتقين الله».

قوله تعالى: «إن الله و ملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما» قد تقدم أن أصل الصلاة الانعطاف فصلاته تعالى انعطافه عليه بالرحمة انعطافا مطلقا لم يقيد في الآية بشيء دون شيء و كذلك صلاة الملائكة عليه انعطاف عليه بالتزكية و الاستغفار و هي من المؤمنين الدعاء بالرحمة.

و في ذكر صلاته تعالى و صلاة ملائكته عليه قبل أمر المؤمنين بالصلاة عليه دلالة على أن في صلاة المؤمنين له اتباعا لله سبحانه و ملائكته و تأكيدا للنهي الآتي.

و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن طريق صلاة المؤمنين أن يسألوا الله تعالى أن يصلي عليه و آله.

قوله تعالى: «إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا» من المعلوم أن الله سبحانه منزه من أن يناله الأذى و كل ما فيه وصمة النقص و الهوان فذكره مع الرسول و تشريكه في إيذائه تشريف للرسول و إشارة إلى أن من قصد رسوله بسوء فقد قصده أيضا بالسوء إذ ليس للرسول بما أنه رسول إلا ربه فمن قصده فقد قصد ربه.

و قد أوعدهم باللعن في الدنيا و الآخرة و اللعن هو الإبعاد من الرحمة و الرحمة الخاصة بالمؤمنين هي الهداية إلى الاعتقاد الحق و حقيقة الإيمان، و يتبعه العمل الصالح فالإبعاد من الرحمة في الدنيا تحريمه عليه جزاء لعمله فيرجع إلى طبع القلوب كما قال: «لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية»: المائدة: 13، و قال: «و لكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا»: النساء: 46، و قال: «أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم»: سورة محمد: 23.

و أما اللعن في الآخرة فهو الإبعاد من رحمة القرب فيها و قد قال تعالى: «كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»: المطففين: 15.

ثم أوعدهم بأنه أعد لهم - أي في الآخرة - عذابا مهينا و وصف العذاب بالمهين لأنهم يقصدون باستكبارهم في الدنيا إهانة الله و رسوله فقوبلوا في الآخرة بعذاب يهينهم.

قوله تعالى: «و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا» تقييد إيذائهم بغير ما اكتسبوا لأن إيذاءهم بما اكتسبوا كما في القصاص و الحد و التعزير لا إثم فيه.

و أما إيذاؤهم بغير ما اكتسبوا و من دون استحقاق فيعده سبحانه احتمالا للبهتان و الإثم المبين، و البهتان هو الكذب على الغير يواجهه به، و وجه كون الإيذاء من غير اكتساب بهتانا أن المؤذي إنما يؤذي لسبب عنده يعده جرما له يقول: لم قال كذا؟ لم فعل كذا؟ و ليس بجرم فيبهته عند الإيذاء بنسبة الجرم إليه مواجهة و ليس بجرم.

و كونه إثما مبينا لأن الافتراء و البهتان مما يدرك العقل كونه إثما من غير حاجة إلى ورود النهي عنهما شرعا.

قوله تعالى: «يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن» إلخ، الجلابيب جمع جلباب و هو ثوب تشتمل به المرأة فيغطي جميع بدنها أو الخمار الذي تغطي به رأسها و وجهها.

و قوله: «يدنين عليهن من جلابيبهن» أي يتسترن بها فلا تظهر جيوبهن و صدورهن للناظرين.

و قوله: «ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين» أي ستر جميع البدن أقرب إلى أن يعرفن أنهن أهل الستر و الصلاح فلا يؤذين أي لا يؤذيهن أهل الفسق بالتعرض لهن.

و قيل: المعنى ذلك أقرب من أن يعرفن أنهن مسلمات حرائر فلا يتعرض لهن بحسبان أنهن إماء أو من غير المسلمات من الكتابيات أو غيرهن و الأول أقرب.

قوله تعالى: «لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم» إلخ، الانتهاء عن الشيء الامتناع و الكف عنه، و الإرجاف إشاعة الباطل للاغتمام به و إلقاء الاضطراب بسببه، و الإغراء بالفعل التحريض عليه.

و المعنى: أقسم لئن لم يكف المنافقون و الذين في قلوبهم مرض عن الإفساد و الذين يشيعون الأخبار الكاذبة في المدينة لإلقاء الاضطراب بين المسلمين لنحرضنك عليهم ثم يجاورونك في المدينة بسبب نفيهم عنها إلا زمانا قليلا و هو ما بين صدور الأمر و فعلية إجرائه.

قوله تعالى: «ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا» الثقف إدراك الشيء و الظفر به، و الجملة حال من المنافقين و من عطف عليهم أي حال كونهم ملعونين أينما وجدوا أخذوا و بولغ في قتلهم فعمهم القتل.

قوله تعالى: «سنة الله في في الذين خلوا من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلا» السنة هي الطريقة المعمولة التي تجري بطبعها غالبا أو دائما.

يقول سبحانه هذا النكال الذي أوعدنا به المنافقين و من يحذو حذوهم من النفي و القتل الذريع هي سنة الله التي جرت في الماضين فكلما بالغ قوم في الإفساد و إلقاء الاضطراب بين الناس و تمادوا و طغوا في ذلك أخذناهم كذلك و لن تجد لسنة الله تبديلا فتجري فيكم كما جرت في الأمم من قبلكم.

بحث روائي

في الفقيه، روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن - فما لكم عليهن من عدة تعتدونها - فمتعوهن و سرحوهن سراحا جميلا» قال: متعوهن أي أجملوهن بما قدرتم عليه من معروف فإنهن يرجعن بكآبة و وحشة و هم عظيم و شماتة من أعدائهن فإن الله كريم يستحيي و يحب أهل الحياء إن أكرمكم أشدكم إكراما لحلائلهم.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها. قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا و إن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع به مثلها من النساء.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و هي مبنية على تخصيص الآية بآية البقرة كما تقدم في تفسير الآية.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن حبيب بن ثابت قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين فسأله عن رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق قال: ليس بشيء بدأ الله بالنكاح قبل الطلاق فقال: «يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن»: أقول: و رواه في المجمع، عن حبيب بن ثابت عنه (عليه السلام).

و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا طلاق قبل نكاح و لا عتق قبل ملك: أقول: و روي مثله عن جابر و عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الكافي، بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) و بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك» كم أحل له من النساء؟ قال: ما شاء من شيء.

و فيه، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: «لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج»؟ فقال: لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينكح ما شاء من بنات عمه و بنات عماته و بنات خاله و بنات خالاته و أزواجه اللاتي هاجرن معه. و أحل له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر و هي الهبة و لا تحل الهبة إلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأما لغير رسول الله فلا يصلح نكاح إلا بمهر و ذلك معنى قوله تعالى: «و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي» و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني عن علي بن الحسين: في قوله: «و امرأة مؤمنة» هي أم شريك الأزدية التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: و روي أنها خولة بنت الحكيم و أنها ليلى بنت الخطيم و أنها ميمونة، و الظاهر أن الواهبة نفسها عدة من النساء.

و في الكافي، مسندا عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج و أنا امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني. فقال لها رسول الله خيرا و دعا لها. ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا فقد نصرني رجالكم و رغبت في نساؤكم. فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال. فقال رسول الله: كفي عنها يا حفصة فإنها خير منك رغبت في رسول الله و لمتها و عبتها. ثم قال للمرأة: انصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك في و تعرضك لمحبتي و سروري و سيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عز و جل «و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي - إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين» قال: فأحل الله عز و جل هبة المرأة نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يحل ذلك لغيره.

و في المجمع، و قيل: إنها لما وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر؟ فنزلت الآية، فقالت عائشة: ما أرى الله إلا يسارع في هواك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإنك إن أطعت الله سارع في هواك.

و في المجمع،: في قوله تعالى: «ترجي من تشاء منهن و تؤوي إليك من تشاء» قال أبو جعفر و أبو عبد الله (عليه السلام). من أرجى لم ينكح و من آوى فقد نكح.

و في الكافي، بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «لا يحل لك النساء من بعد» فقال: إنما عنى به لا يحل لك النساء التي حرم الله عليك في هذه الآية «حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم - و أخواتكم و عماتكم و خالاتكم» إلى آخرها. و لو كان الأمر كما يقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له لأن أحدكم يستبدل كلما أراد و لكن الأمر ليس كما يقولون إن الله عز و جل أحل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم في هذه الآية في سورة النساء.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق علي بن زيد عن الحسن: في قوله: «و لا أن تبدل بهن من أزواج» قال: قصره الله على نسائه التسع اللاتي مات عنهن. قال علي فأخبرت علي بن الحسين فقال: لو شاء تزوج غيرهن. و لفظ عبد بن حميد فقال: بل كان له أيضا أن يتزوج غيرهن.

و في تفسير القمي،: و أما قوله عز و جل يا أيها الذين آمنوا - لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم» فإنه لما أن تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزينب بنت جحش و كان يحبها فأولم و دعا أصحابه فكان أصحابه إذا أكلوا يحبون أن يتحدثوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان يحب أن يخلو مع زينب فأنزل الله عز و جل. «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم» و ذلك أنهم كانوا يدخلون بلا إذن فقال عز و جل: «إلا أن يؤذن لكم إلى قوله - من وراء حجاب»: أقول: و روي تفصيل القصة عن أنس بطرق مختلفة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان قال: نزل حجاب رسول الله على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.

أقول: و رواها أيضا ابن سعد عن أنس و فيه: أن السنة كانت مبتنى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزينب.

و فيه،: في قوله تعالى: «و ما كان لكم أن تؤذوا» الآية: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أ يحجبنا محمد عن بنات عمنا و يتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده فنزلت الآية.

أقول: و قد وردت بذلك عدة من الروايات و في بعضها أنه كان يريد عائشة و أم سلمة.

و في ثواب الأعمال، عن أبي المعزى عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال: قلت: ما معنى صلاة الله و صلاة ملائكته و صلاة المؤمن؟ قال: صلاة الله رحمة من الله، و صلاة الملائكة تزكية منهم له، و صلاة المؤمنين دعاء منهم له.

و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: صلوا على محمد و آل محمد فإن الله تعالى يقبل دعاءكم عند ذكر محمد و دعاءكم و حفظكم إياه إذا قرأتم «إن الله و ملائكته يصلون على النبي» فصلوا عليه في الصلاة كنتم أو في غيرها.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن مردويه عن كعب بن عجرة قال: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أقول: و قد أورد ثماني عشرة حديثا غير هذه الرواية تدل على تشريك آل النبي معه في الصلاة روتها أصحاب السنن و الجوامع عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس و طلحة و أبو سعيد الخدري و أبو هريرة و أبو مسعود الأنصاري و بريدة و ابن مسعود و كعب بن عجرة و علي (عليه السلام) و أما روايات الشيعة فهي فوق حد الإحصاء.

و فيه، أخرج أحمد و الترمذي عن الحسن بن علي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين - يدنين عليهن من جلابيبهن» فإنه كان سبب نزولها أن النساء كن يخرجن إلى المسجد و يصلين خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا كان الليل و خرجن إلى صلاة المغرب و العشاء الآخرة يقعد الشباب لهن في طريقهن فيؤذونهن و يتعرضون لهن فأنزل الله: «يا أيها النبي» الآية.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و أبو داود و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية «يدنين عليهن من جلابيبهن» خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لئن لم ينته المنافقون» نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خرج في بعض غزواته يقولون: قتل و أسر فيغتم المسلمون لذلك و يشكون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله عز و جل في ذلك «لئن لم ينته إلى قوله إلا قليلا» أي نأمرك بإخراجهم من المدينة إلا قليلا. «ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا» و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ملعونين» فوجبت عليهم اللعنة بعد اللعنة بقول الله.