سُورَةُ الحَاقَّةِ

٣٨ - ٥٢

فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ﴿٣٨ وَمَا لا تُبْصِرُونَ ﴿٣٩ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿٤٠ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ﴿٤١ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ﴿٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٤٣ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ﴿٤٤ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿٤٥ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿٤٦ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴿٤٧ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٤٨ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ﴿٤٩ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٥٠ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴿٥١ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿٥٢

بيان

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكد ما تقدم من أمر الحاقة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقية ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: «فلا أقسم بما تبصرون و ما لا تبصرون» ظاهر الآية أنه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإن من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صف واحد و يعظمه تعالى و ما صنع تعظيما مشتركا في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنه خلقه جليل جميل لأنه تعالى جميل لا يصدر منه إلا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى على نفسه بخلقه في قوله: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: الم السجدة: 7، و قوله: «فتبارك الله أحسن الخالقين»: المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقية القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإن النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحده تعالى و مصير الكل إليه و ما يترتب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحق في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و مما تقدم يظهر عدم استقامة ما قيل: إن المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإن السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إن المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إن المراد الجن و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعم مدلولا من جميع ذلك.

قوله تعالى: «إنه لقول رسول كريم» الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أن المراد برسول كريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنه إنما ينسب إليه بما أنه رسول و الرسول بما أنه رسول لا يأتي إلا بقول مرسله، و قد بين ذلك فضل بيان بقوله بعد: «تنزيل من رب العالمين».

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه مما نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أن قوله بعد: «و لو تقول علينا بعض الأقاويل» و ما يتلوه إنما يناسب كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: «و ما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون» نفي أن يكون القرآن نظما ألفه شاعر و لم يقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شعرا و لم يكن شاعرا.

و قوله: «قليلا ما تؤمنون» توبيخ لمجتمعهم حيث إن الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلا قليل منهم.

قوله تعالى: «و لا بقول كاهن قليلا ما تذكرون» نفي أن يكون القرآن كهانة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كاهنا يأخذ القرآن من الجن و هم يلقونه إليه.

و قوله: «قليلا ما تذكرون» توبيخ أيضا لمجتمعهم.

قوله تعالى: «تنزيل من رب العالمين» أي منزل من رب العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: «و لو تقول علينا بعض الأقاويل - إلى قوله - حاجزين» يقال: تقول على فلان أي اختلق قولا من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى: «و لو تقول علينا» هذا الرسول الكريم الذي حملناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزلناه عليه و اختلق «بعض الأقاويل» و نسبه إلينا «لأخذنا منه باليمين» كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوة كما في رواية القمي «ثم لقطعنا منه الوتين» و قتلناه لتقوله علينا «فما منكم من أحد عنه حاجزين» تحجبونه عنا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تقدير أن يفتري على الله كذبا و ينسب إليه شيئا لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله: «لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا»: إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم: «و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون»: الأنعام: 88.

فلا يرد أن مقتضى الآيات أن كل من ادعى النبوة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشد العقاب و هو منقوض ببعض مدعي النبوة من الكذابين.

و ذلك أن التهديد في الآية متوجهة إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقول على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدعي النبوة المفتري على الله في دعواه النبوة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: «و إنه لتذكرة للمتقين» يذكرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنة و ما هذا شأنه لا يكون تقولا و افتراء فالآية مسوقة حجة على كون القرآن منزها عن التقول و الفرية.

قوله تعالى: «و إنا لنعلم أن منكم مكذبين و إنه لحسرة على الكافرين» ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: «و إنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم» قد تقدم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقيقة القرآن المنبىء عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حق اليقين ثم الأمر بتسبيح اسم الرب العظيم المنزه عن خلق العالم باطلا لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقة التي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

تم و الحمد لله.