سُورَةُ المُؤۡمِنُونَ

١٢ - ٢٢

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ﴿١٢ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴿١٣ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴿١٥ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴿١٦ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴿١٧ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴿١٨ فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿١٩ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ﴿٢٠ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿٢١ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿٢٢

بيان

لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الأوصاف الجميلة عقبه بشرح خلقهم و خلق ما أنعم عليهم من النعم مقرونا بتدبير أمرهم تدبيرا مخلوطا بالخلق لينكشف به أنه هو رب للإنسان و لكل شيء الواجب أن يعبد وحده لا شريك له.

قوله تعالى: «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين» قال في المجمع،: السلالة اسم لما يسل من الشيء كالكساحة اسم لما يكسح انتهى.

و ظاهر السياق أن المراد بالإنسان هو النوع فيشمل آدم و من دونه و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائي الذي خلق به آدم من الطين ثم جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله: «و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين»: الم السجدة: 8.

و يؤيده قوله بعد: «ثم جعلناه نطفة» إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثم خلقناه نطفة كما قيل: ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة إلخ.

و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأن المراد به آدم (عليه السلام) غير سديد.

و أصل الخلق كما قيل التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئا من اللباس فالمعنى و لقد قدرنا الإنسان أولا من سلالة من أجزاء الأرض المخلوطة بالماء.

قوله تعالى: «ثم جعلناه نطفة في قرار مكين» النطفة القليل من الماء و ربما يطلق على مطلق الماء و القرار مصدر أريد به المقر مبالغة و المراد به الرحم التي تستقر فيها النطفة، و المكين المتمكن وصفت به الرحم لتمكنها في حفظ النطفة من الضيعة و الفساد أو لكون النطفة مستقرة متمكنة فيها.

و المعنى ثم جعلنا الإنسان نطفة في مستقر متمكن هي الرحم كما خلقناه أولا من سلالة من طين أي بدلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك.

قوله تعالى: «ثم خلقنا النطفة علقة - إلى قوله - فكسونا العظام لحما» تقدم بيان مفردات الآية في الآية 5 من سورة الحج في الجزء السابق من الكتاب و في قوله: «فكسونا العظام لحما» استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى: «ثم أنشأناه خلقا آخر» الإنشاء كما ذكره الراغب - إيجاد الشيء و تربيته كما أن النشء و النشأة إحداثه و تربيته كما يقال للشاب الحديث السن ناشىء.

و قد غير السياق من الخلق إلى الإنشاء فقال: «ثم أنشأناه خلقا آخر» دون أن يقال: ثم خلقناه إلخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمنه و لا يقارنه ما تقدمه من مادة فإن العلقة مثلا و إن خالفت النطفة في أوصافها و خواصها من لون و طعم و غير ذلك إلا أن في النطفة مكان كل من هذه الأوصاف و الخواص ما يجانسه و إن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة و هما جميعا لون بخلاف ما أنشأه الله أخيرا و هو الإنسان الذي له حياة و علم و قدرة فإن ما له من جوهر الذات و هو الذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة و العلقة و المضغة و العظام المكسوة لحما شيء، و لا سبق فيها شيء يناظر ما له من الخواص و الأوصاف كالحياة و القدرة و العلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم.

و الضمير في «أنشأناه» - على ما يعطيه السياق - للإنسان المخلوق عظاما مكسوة باللحم فهو الذي أنشأ و أحدث خلقا آخر أي بدل و هو مادة ميتة جاهلة عاجزة موجودا ذا حياة و علم و قدرة، فقد كان مادة لها صفاتها و خواصها ثم برز و هو يغاير سابقته في الذات و الصفات و الخواص، فهو تلك المادة السابقة فإنها التي صارت إنسانا، و ليس بها إذ لا يشاركها في ذات و لا صفات، و إنما له نوع اتحاد معها و تعلق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم.

و هذا هو الذي يستفاد من مثل قوله: «و قالوا أ ءذا ضللنا في الأرض أ ءنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: الم السجدة: 11، فالمتوفى و المأخوذ عند الموت هو الإنسان، و المتلاشي الضال في الأرض هو البدن و ليس به.

و قد اختلف العطف في مفردات الآية بالفاء و ثم، و قد قيل في وجهه إن ما عطف بثم له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله: «ثم جعلناه نطفة» «ثم خلقنا النطفة علقة»، «ثم أنشأناه خلقا آخر»، و ما لم يكن بتلك البينونة و البعد عطف بالفاء كقوله: «فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما».

قوله تعالى: «فتبارك الله أحسن الخالقين» قال الراغب: أصل البرك بالفتح فالسكون - صدر البعير.

قال: و برك البعير ألقى ركبه و اعتبر منه معنى اللزوم.

قال: و سمي محبس الماء بركة بالكسر فالسكون - و البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء قال تعالى: «لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض» و سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة و المبارك ما فيه ذلك الخير.

قال: و لما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك و فيه بركة.

انتهى.

فالتبارك منه تعالى اختصاص بالخير الكثير الذي يجود به و يفيضه على خلقه و قد تقدم أن الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كله في تقديره و هو إيجاد الأشياء و تركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها و تناسب ما وراءها و من ذلك ينتشر الخير الكثير.

و وصفه تعالى بأحسن الخالقين يدل على عدم اختصاص الخلق به و هو كذلك لما تقدم أن معناه التقدير و قياس الشيء من الشيء لا يختص به تعالى، و في كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله: «و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير»: المائدة: 110 و قوله: «و تخلقون إفكا: العنكبوت: 17.

قوله تعالى: «ثم إنكم بعد ذلك لميتون» بيان لتمام التدبير الإلهي و أن الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير، و أنه حق كما تقدم في قوله تعالى: «كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة»: الأنبياء: 35.

قوله تعالى: «ثم إنكم يوم القيامة تبعثون» و هذا تمام التدبير و هو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الإنسان إذا حل بها لزمها و لا يزال قاطنا بها.

قوله تعالى: «و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق و ما كنا عن الخلق غافلين»، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله: «فوقكم» السماوات السبع و قد سماها طرائق - جمع طريقة - و هي السبيل المطروقة لأنها ممر الأمر النازل من عنده تعالى إلى الأرض، قال تعالى: «يتنزل الأمر بينهن»: الطلاق - 12، و قال: «يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه»: الم السجدة - 5، و السبل التي تسلكها الأعمال في صعودها إلى الله و الملائكة في هبوطهم و عروجهم كما قال: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: فاطر - 10، و قال: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك»: مريم - 64.

و بذلك يتضح اتصال ذيل الآية «و ما كنا عن الخلق غافلين» بصدرها أي لستم بمنقطعين عنا و لا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا و بينكم يتطرقها رسل الملائكة بالنزول و الصعود و ينزل منها أمرنا إليكم و تصعد منها أعمالكم إلينا.

و بذلك كله يظهر ما في قول بعضهم: إن الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، و قول آخرين: إنها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة.

على أن اتصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بين.

قوله تعالى: «و أنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض و إنا على ذهاب به لقادرون» المراد بالسماء جهة العلو فإن ما علاك و أظلك فهو سماء، و المراد بالماء النازل منها ماء المطر.

و في قوله: «بقدر» دلالة على أن الذي نزل إنما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التام الإلهي الذي يقدره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدر و لا ينقص، و فيه تلميح أيضا إلى قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21.

و المعنى: و أنزلنا من جهة العلو ماء بقدر و هو ماء المطر فأسكناه في الأرض و هو الذخائر المدخرة من الماء في الجبال و السهول تتفجر عنه العيون و الأنهار و تكشف عنه الآبار، و إنا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الذي أسكناه في الأرض نوعا من الذهاب لا تهتدون إلى علمه.

قوله تعالى: «فأنشأنا لكم به جنات من نخيل و أعناب» إلى آخر الآية، إنشاء الجنات إحداثها و تربيتها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: «و شجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن و صبغ للآكلين» معطوف على «جنات» أي و أنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، و المراد بها شجرة الزيتون التي تكثر في طور سيناء، و قوله: «تنبت بالدهن» أي تثمر ثمرة فيها الدهن و هو الزيت فهي تنبت بالدهن، و قوله: «و صبغ للآكلين» أي و تنبت بصبغ للآكلين، و الصبغ بالكسر فالسكون الإدام الذي يؤتدم به، و إنما خص شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: «و إن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها» إلخ، العبرة الدلالة يستدل بها على أنه تعالى مدبر لأمر خلقه حنين بهم رءوف رحيم، و المراد بسقيه تعالى مما في بطونها أنه رزقهم من ألبانها، و المراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها و شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و منها يأكلون.

قوله تعالى: «و عليها و على الفلك تحملون» ضمير «عليها» للأنعام و الحمل على الأنعام هو الحمل على الإبل، و هو حمل في البر و يقابله الحمل في البحر و هو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله: «و حملناهم في البر و البحر»: إسراء: 70، و الفلك جمع فلكة و هي السفينة.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: «ثم أنشأناه خلقا آخر» يعني نفخ الروح فيه.

و في الكافي، بإسناده عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين يوما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى؟ فيؤمران فيقولان: يا رب شقي أو سعيد؟ فيؤمران فيقولان: يا رب ما أجله و ما رزقه و كل شيء من حاله؟ و عدد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه. فإذا كمل الأجل بعث الله إليه ملكا فزجره زجرة فيخرج و قد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أ فيجوز أن يدعو الله فيحول الأنثى ذكرا أو الذكر أنثى؟ فقال: إن الله يفعل ما يشاء. أقول: و الرواية مروية عن أبي جعفر (عليه السلام) بطرق أخرى و ألفاظ متقاربة.

و في تفسير القمي،: «قوله عز و جل و شجرة تخرج من طور سيناء - تنبت بالدهن و صبغ للآكلين» قال: شجرة الزيتون، و هو مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) فالطور الجبل و سيناء الشجرة.

و في المجمع،: «تنبت بالدهن و صبغ للآكلين» و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه و ادهنوا.