سُورَةُ الوَاقِعَةِ

١١ - ٥٦

أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴿١١ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿١٢ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ ﴿١٣ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ﴿١٤ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ﴿١٥ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴿١٦ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴿١٧ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴿١٨ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ ﴿١٩ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ﴿٢٠ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴿٢١ وَحُورٌ عِينٌ ﴿٢٢ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴿٢٣ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٤ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا ﴿٢٥ إِلاَّ قِيلا سَلامًا سَلامًا ﴿٢٦ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴿٢٧ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ﴿٢٨ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴿٢٩ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴿٣٠ وَمَاء مَّسْكُوبٍ ﴿٣١ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ﴿٣٢ لّا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ﴿٣٣ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴿٣٤ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء ﴿٣٥ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ﴿٣٦ عُرُبًا أَتْرَابًا ﴿٣٧ لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿٣٨ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ ﴿٣٩ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ ﴿٤٠ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ﴿٤١ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ﴿٤٢ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ﴿٤٣ لّا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ﴿٤٤ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ﴿٤٥ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ﴿٤٦ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿٤٧ أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ﴿٤٨ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ﴿٤٩ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴿٥٠ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ﴿٥١ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ﴿٥٢ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴿٥٣ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ﴿٥٤ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ﴿٥٥ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ﴿٥٦

بيان

الآيات تفصل ما ينتهي إليه حال كل واحد من الأزواج الثلاثة يوم القيامة.

قوله تعالى: «أولئك المقربون في جنات النعيم» الإشارة بأولئك إلى السابقين، و «أولئك المقربون» مبتدأ و خبر، و الجملة استئنافية، و قيل: خبر لقوله: «و السابقون»، و قيل: مبتدأ خبره في جنات النعيم، و أول الوجوه الثلاثة أوجه بالنظر إلى سياق تقسيم الناس إلى ثلاثة أزواج أولا ثم تفصيل ما ينتهي إليه أمر كل منهم.

و القرب و البعد معنيان متضائفان تتصف بهما الأجسام بحسب النسبة المكانية ثم توسع فيهما فاعتبرا في غير المكان من الزمان و نحوه، يقال: الغد قريب من اليوم و الأربعة أقرب إلى الثلاثة من الخمسة، و الخضرة أقرب إلى السواد من البياض ثم توسع فيهما فاعتبرا في غير الأجسام و الجسمانيات من الحقائق.

و قد اعتبر القرب وصفا له تعالى بما له من الإحاطة بكل شيء، قال تعالى: «و إذا سألك عبادي عني فإني قريب»: البقرة: 186، و قال: «و نحن أقرب إليه منكم»: الواقعة: 85، و قال: «و نحن أقرب إليه من حبل الوريد»: ق: 16.

و هذا المعنى أعني كونه تعالى أقرب إلى الشيء من نفسه أعجب ما يتصور من معنى القرب، و قد أشرنا إلى تصويره في تفسير الآية.

و اعتبر القرب أيضا وصفا للعباد في مرحلة العبودية و لما كان أمرا اكتسابيا يستعمل فيه لفظ التقرب فالعبد يتقرب بصالح العمل إلى الله سبحانه و هو وقوعه في معرض شمول الرحمة الإلهية بزوال أسباب الشقاء و الحرمان، و الله سبحانه يقرب العبد بمعنى إنزاله منزلة يختص بنيل ما لا يناله من دونه من إكرامه تعالى و مغفرته و رحمته، قال تعالى: «كتاب مرقوم يشهده المقربون»: المطففين: 21، و قال: «و مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون»: المطففين: 28.

فالمقربون هم النمط الأعلى من أهل السعادة كما يشير إليه قوله: «و السابقون السابقون أولئك المقربون» و لا يتم ذلك إلا بكمال العبودية كما قال: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون»: النساء: 172، و لا تكمل العبودية إلا بأن يكون العبد تبعا محضا في إرادته و عمله لمولاه لا يريد و لا يعمل إلا ما يريده و هذا هو الدخول تحت ولاية الله فهؤلاء هم أولياء الله.

و قوله: «في جنات النعيم» أي كل واحد منهم في جنة النعيم فالكل في جنات النعيم، و يمكن أن يراد به أن كلا منهم في جنات النعيم لكن يبعده قوله في آخر السورة: «فأما إن كان من المقربين فروح و ريحان و جنة نعيم».

و قد تقدم غير مرة أن النعيم هي الولاية و أن جنة النعيم هي جنة الولاية و هو المناسب لما تقدم آنفا أن المقربين هم أهل ولاية الله.

قوله تعالى: «ثلة من الأولين و قليل من الآخرين» الثلة - على ما قيل - الجماعة الكثيرة، و المراد بالأولين الأمم الماضون للأنبياء السابقين، و بالآخرين هذه الأمة على ما هو المعهود من كلامه تعالى في كل موضع ذكر فيه الأولين و الآخرين معا و منها ما سيأتي من قوله: «أ إنا لمبعوثون أ و آباؤنا الأولون قل إن الأولين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم» فمعنى الآيتين: هم أي المقربون جماعة كثيرة من الأمم الماضين و قليل من هذه الأمة.

و بما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالأولين و الآخرين أولوا هذه الأمة و آخروها غير سديد.

قوله تعالى: «على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين» الوضن النسج و قيل: نسج الدرع و إطلاقه على نسج السرر استعارة يراد بها إحكام نسجها.

و قوله: «متكئين عليها» حال من الضمير العائد إلى المقربين و الضمير للسرر، و قوله: «متقابلين» حال آخر منه أو من ضمير «متكئين» و تقابلهم كناية عن بلوغ أنسهم و حسن عشرتهم و صفاء باطنهم فلا ينظرون في قفاء صاحبهم و لا يعيبونه و لا يغتابونه.

و المعنى: هم أي المقربون مستقرون على سرر منسوجة حال كونهم متكئين عليها حال كونهم متقابلين.

قوله تعالى: «يطوف عليهم ولدان مخلدون» الولدان جمع ولد و هو الغلام، و طوافهم عليهم كناية عن خدمتهم لهم، و المخلدون من الخلود بمعنى الدوام أي باقون أبدا على هيئتهم من حداثة السن، و قيل من الخلد بفتحتين و هو القرط، و المراد أنهم مقرطون بالخلد.

قوله تعالى: «بأكواب و أباريق و كأس من معين» الأكواب جمع كوب و هو الإناء الذي لا عروة له و لا خرطوم، و الأباريق جمع إبريق و هو الإناء الذي له خرطوم، و قيل: عروة و خرطوم معا، و الكأس معروف، قيل: أفرد الكأس لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت ممتلئة، و المراد بالمعين الخمر المعين و هو الظاهر للبصر الجاري.

قوله تعالى: «لا يصدعون عنها و لا ينزفون» أي لا يأخذهم صداع لأجل خمار يحصل من الخمر كما في خمر الدنيا و لا يزول عقلهم بالسكر الحاصل منها.

قوله تعالى: «و فاكهة مما يتخيرون و لحم طير مما يشتهون» الفاكهة و الطير معطوفان على قوله: «بأكواب»، و المعنى: يطوف عليهم الولدان بفاكهة مما يختارون و بلحم طير مما يشتهون.

و لا يستشكل بما ورد في الروايات أن أهل الجنة إذا اشتهوا فاكهة تدلى إليهم غصن شجرتها بما لها من ثمرة فيتناولونها، و إذا اشتهوا لحم طير وقع مقليا مشويا في أيديهم فيأكلون منها ما أرادوا ثم حيي و طار.

و ذلك لأن لهم ما شاءوا و من فنون التنعم تناول ما يريدونه من أيدي خدمهم و خاصة حال اجتماعهم و احتفالهم كما أن من فنونه تناولهم أنفسهم من غير توسيط خدمهم فيه.

قوله تعالى: «و حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون» مبتدأ محذوف الخبر على ما يفيده السياق و التقدير و لهم حور عين أو و فيها حور عين و الحور العين نساء الجنة و قد تقدم معنى الحور العين في تفسير سورة الدخان.

و قوله: «كأمثال اللؤلؤ المكنون» أي اللؤلؤ المصون المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي فهو منته في صفائه.

قوله تعالى: «جزاء بما كانوا يعملون» قيد لجميع ما تقدم و هو مفعول له، و المعنى: فعلنا بهم ما فعلنا ليكون جزاء لهم قبال ما كانوا يستمرون عليه من العمل الصالح.

قوله تعالى: «لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما» اللغو من القول ما لا فائدة فيه و لا أثر يترتب عليه، و التأثيم النسبة إلى الإثم أي لا يخاطب أحدهم صاحبه بما لا فائدة فيه و لا ينسبه إلى الإثم إذ لا إثم هناك، و فسر بعضهم التأثيم بالكذب.

قوله تعالى: «إلا قيلا سلاما سلاما» استثناء منقطع من اللغو و التأثيم، و القيل مصدر كالقول، و «سلاما» بيان لقوله: «قيلا» و تكراره يفيد تكرر الوقوع، و المعنى: إلا قولا هو السلام بعد السلام.

قيل: و يمكن أن يكون «سلاما» مصدرا بمعنى الوصف و صفة لقيلا، و المعنى: إلا قولا هو سالم.

قوله تعالى: «و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين» شروع في تفصيل ما انتهى إليه حال أصحاب الميمنة و في تبديله من أصحاب اليمين يعلم أن أصحاب اليمين و أصحاب الميمنة واحد و هم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم.

و الجملة استفهامية مسوقة لتفخيم أمرهم و التعجيب من حالهم و هي خبر لقوله: «و أصحاب اليمين».

قوله تعالى: «في سدر مخضود» السدر شجرة النبق، و المخضود ما قطع شوكه فلا شوك له.

قوله تعالى: «و طلح منضود» الطلح شجر الموز، و قيل: ليس بالموز بل شجر له ظل بارد رطب، و قيل: شجرة أم غيلان لها أنوار طيبة الرائحة، و نضد الأشياء جعل بعضها على بعض، و المعنى: و في شجر موز منضود الثمر بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه.

قوله تعالى: «و ظل ممدود و ماء مسكوب» قيل: الممدود من الظل هو الدائم الذي لا تنسخه شمس فهو باق لا يزول، و الماء المسكوب هو المصبوب الجاري من غير انقطاع.

قوله تعالى: «و فاكهة كثيرة لا مقطوعة و لا ممنوعة» أي لا مقطوعة في بعض الأزمان كانقطاع الفواكه في شتاء و نحوه في الدنيا، و لا ممنوعة التناول لمانع من قبل أنفسهم كسأمة أو شبع أو من خارج كبعد المكان أو شوكة تمنع القطف أو غير ذلك.

قوله تعالى: «و فرش مرفوعة» الفرش جمع فراش و هو البساط، و المرفوعة العالية، و قيل: المراد بالفرش المرفوعة النساء المرتفعات قدرا في عقولهن و جمالهن و كمالهن و المرأة تسمى فراشا، و يناسب هذا المعنى قوله بعد: «إنا أنشأناهن إنشاء» إلخ.

قوله تعالى: «إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا» أي إنا أوجدناهن و أحدثناهن و ربيناهن أحداثا و تربية خاصة، و فيه تلويح إلى أنهن لا يختلف حالهن بالشباب و الشيب و صباحة المنظر و خلافها، و قوله: «فجعلناهن أبكارا» أي خلقناهن عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا.

و قوله: «عربا أترابا» العرب جمع عروب و هي المتحننة إلى زوجها أو الغنجة أو العاشقة لزوجها، و الأتراب جمع ترب بالكسر فالسكون بمعنى المثل أي أنهن أمثال أو أمثال في السن لأزواجهن.

قوله تعالى: «لأصحاب اليمين ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين» يتضح معناه بما تقدم، و يستفاد من الآيات أن أصحاب اليمين في الآخرين جمع كثير كالأولين لكن السابقين المقربين في الآخرين أقل جمعا منهم في الأولين.

قوله تعالى: «و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال» مبتدأ و خبر، و الاستفهام للتعجيب و التهويل، و قد بدل أصحاب المشأمة من أصحاب الشمال إشارة إلى أنهم الذين يؤتون كتابهم بشمالهم كما مر نظيره في أصحاب اليمين.

قوله تعالى: «في سموم و حميم و ظل من يحموم لا بارد و لا كريم» السموم - على ما في الكشاف، - حر نار ينفذ في المسام، و الحميم الماء الشديد الحرارة، و التنوين فيهما لتعظيم الأمر، و اليحموم الدخان الأسود، و قوله: «لا بارد و لا كريم» الظاهر أنهما صفتان للظل لا ليحموم، و ذلك أن الظل هو الذي يتوقع منه أن يتبرد بالاستظلال به و يستراح فيه دون الدخان.

قوله تعالى: «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين» تعليل لاستقرار أصحاب الشمال في العذاب، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من عذابهم يوم القيامة، و إتراف النعمة الإنسان إبطارها و إطغاؤها له، و ذلك إشغالها نفسه بحيث يغفل عما وراءها فكون الإنسان مترفا تعلقه بما عنده من نعم الدنيا و ما يطلبه منها سواء كانت كثيرة أو قليلة.

فلا يرد ما استشكل من أن كثيرا من أصحاب الشمال ليسوا من المترفين بمعنى المتوسعين في التنعم و ذلك أن الإنسان محفوف بنعم ربه و ليست النعمة هي المال فحسب فاشتغاله بنعم ربه عن ربه ترفه منه، و المعنى: أنا إنما نعذبهم بما ذكر لأنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا بطرين طاغين بالنعم.

قوله تعالى: «و كانوا يصرون على الحنث العظيم» في المجمع،: الحنث نقض العهد المؤكد بالحلف، و الإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه.

انتهى.

و لعل المستفاد من السياق أن إصرارهم على الحنث العظيم هو استكبارهم عن عبودية ربهم التي عاهدوا الله عليها بحسب فطرتهم و أخذ منهم الميثاق عليها في عالم الذر فيطيعون غير ربهم و هو الشرك المطلق.

و قيل: الحنث الذنب العظيم فتوصيفه بالعظيم مبالغة و الحنث العظيم الشرك بالله، و قيل: الحنث العظيم جنس المعاصي الكبيرة، و قيل: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت»: النحل: 38، و لفظ الآية مطلق.

قوله تعالى: «و كانوا يقولون أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ إنا لمبعوثون أ و آباؤنا الأولون» قول منهم مبني على الاستبعاد و لذا أكدوا استبعاد بعث أنفسهم ببعث آبائهم لأن الاستبعاد في موردهم آكد، و التقدير أ و آباؤنا الأولون مبعوثون.

قوله تعالى: «قل إن الأولين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم» أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عن استبعادهم البعث بتقريره ثم إخبارهم عما يعيشون به يوم البعث من طعام و شراب و هما الزقوم و الحميم.

و محصل القول إن الأولين و الآخرين - من غير فرق بينهم لا كما فرقوا فجعلوا بعث أنفسهم مستبعدا و بعث آبائهم الأولين أشد استبعادا و آكد - لمجموعون محشورين إلى ميقات يوم معلوم.

و الميقات ما وقت به الشيء و هو وقته المعين، و المراد بيوم معلوم يوم القيامة المعلوم عند الله فإضافة الميقات إلى يوم معلوم بيانية.

قوله تعالى: «ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون» من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبرهم عما ينتهي إليه حالهم يوم القيامة و يعيشون به من طعام و شراب.

و في خطابهم بالضالين المكذبين إشارة إلى ملاك شقائهم و خسرانهم يوم البعث و هو ضلالهم عن طريق الحق و استقرار ذلك في نفوسهم باستمرارهم على تكذيبهم و إصرارهم على الحنث، و لو كانوا ضالين فحسب من غير تكذيب لكان من المرجو أن ينجوا و لا يهلكوا.

و «من» في قوله: «من شجر» للابتداء، و في قوله: «من زقوم» بيانية و يحتمل أن يكون «من زقوم» بدلا من «من شجر»، و ضمير «منها» للشجر أو الثمر و كل منهما يؤنث و يذكر و لذا جيء هاهنا بضمير التأنيث و في الآية التالية في قوله: «فشاربون عليه» بضمير التذكير، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: «فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم» كلمة «على» للاستعلاء و تفيد في المورد كون الشرب عقيب الأكل من غير ريث، و الهيم جمع هيماء الإبل التي أصابها الهيام بضم الهاء و هو داء شبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب الماء حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، و قيل: الهيم الرمال التي لا تروى بالماء.

و المعنى: فشاربون عقيب ما أكلتم من الزقوم من الماء الشديد الحرارة فشاربون كشرب الإبل الهيم أو كشرب الرمال الهيم و هذا آخر ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوله لهم.

قوله تعالى: «هذا نزلهم يوم الدين» أي يوم الجزاء و النزل ما يقدم للضيف النازل من طعام و شراب إكراما له، و المعنى: هذا الذي ذكر من طعامهم و شرابهم هو نزل الضالين المكذبين ففي تسمية ما أعد لهم بالنزل نوع تهكم، و الآية من كلامه تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطابا لهم لقيل: هذا نزلكم.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت إذا وقعت الواقعة ذكر فيها «ثلة من الأولين و قليل من الآخرين» قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعال و استمع ما قد أنزل الله ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين». ألا و إن من آدم إلى ثلة و أمتي ثلة و لن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له:. قال السيوطي و أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عروة بن رويم مرسلا و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت «ثلة من الأولين و قليل من الآخرين» حزن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا: إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل فنزلت نصف النهار «ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين» تقابلون الناس فنسخت الآية «و قليل من الآخرين».

أقول: قال في الكشاف، في تفسير الآية: فإن قلت: فقد روي أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين فما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يراجع ربه حتى نزلت «ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين».

قلت: هذا لا يصح لأمرين: أحدهما: أن هذه الآية واردة في السابقين ورودا ظاهرا و كذلك الثانية في أصحاب اليمين، أ لا ترى كيف عطف أصحاب اليمين و وعدهم على السابقين و وعدهم؟ الثاني: أن النسخ في الأخبار غير جائز.

انتهى.

و أجيب عنه بأنه يمكن أن يحمل الحديث على أن الصحابة لما سمعوا الآية الأولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين و قليلا منهم فيكون الفائزون بالجنة في هذه الأمة أقل منهم في الأمم السالفة فنزلت «ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين» فزال حزنهم، و معنى نسخ الآية السابقة إزالة حسبانهم المذكور.

و أنت خبير بأنه حمل على ما لا دليل عليه من جهة اللفظ و اللفظ يأباه و خاصة حمل نسخ الآية على إزالة الحسبان، و حال الرواية الأولى و خاصة من جهة ذيلها كحال هذه الرواية.

و في المجمع، في قوله تعالى: «يطوف عليهم ولدان مخلدون» اختلف في هذه الولدان فقيل: إنهم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها و لا سيئات فيعاقبوا عليها فأنزلوا هذه المنزلة.

قال: و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه سئل عن أطفال المشركين؟ فقال: هم خدم أهل الجنة:. أقول: و رواه في الدر المنثور عن الحسن، و الرواية ضعيفة لا تعويل عليها.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة و البزار و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة و في بعضها أن المؤمن يأكل ما يشتهيه ثم يعود الباقي إلى ما كان عليه و يحيا فيطير إلى مكانه و يباهي بذلك.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما» قال: الفحش و الكذب و الغنا.

أقول: لعل المراد بالغنا ما يكون منه لهوا أو الغنا مصحف الخنا.

و فيه،: في قوله تعالى: «و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين» قال: علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أصحابه و شيعته.

أقول: الرواية مبنية على ما ورد في ذيل قوله تعالى: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه»: إسراء: 71، إن اليمين هو الإمام الحق و معناها أن اليمين هو علي (عليه السلام) و أصحاب اليمين شيعته، و الرواية من الجري.

و فيه،: في قوله تعالى: «في سدر مخضود» شجر لا يكون له ورق و لا شوك فيه، و قرأ أبو عبد الله (عليه السلام): «و طلع منضود» قال: بعضه على بعض.

و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: إن الله ينفعنا بالأعراب و مسائلهم. أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية. و ما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و ما هي؟ قال: السدر فإن لها شوكا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ليس يقول الله: «في سدر مخضود» يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة أنها تنبت ثمرا تفتق الثمر منها عن اثنين و سبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر.

و في المجمع،: و روت العامة عن علي (عليه السلام): أنه قرأ رجل عنده «و طلح منضود» فقال: ما شأن الطلح إنما هو «و طلع» كقوله: «و نخل طلعها هضيم» فقيل له: أ لا تغيره؟ قال: إن القرآن لا يهاج اليوم و لا يحرك:، رواه عنه ابنه الحسن (عليه السلام) و قيس بن سعد.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و هناد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: «و طلح منضود» قال: هو الموز.

و في المجمع، ورد في الخبر: أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها اقرءوا إن شئتم «و ظل ممدود» و روي أيضا: أن أوقات الجنة كغدوات الصيف لا يكون فيها حر و لا برد.

أقول: و روي الأول في الدر المنثور عن أبي سعيد و أنس و غيرهما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في روضة الكافي، بإسناده عن علي بن إبراهيم عن ابن محبوب عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث يصف فيه الجنة و أهلها: و يزور بعضهم بعضا و يتنعمون في جناتهم في ظل ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و أطيب من ذلك.

و في تفسير القمي،: و قوله: «إنا أنشأناهن إنشاء» قال: الحور العين في الجنة «فجعلناهن أبكارا عربا» قال: لا يتكلمون إلا بالعربية.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «عربا» قال: كلامهن عربي.

أقول: و فيه روايات أخر أن عربا جمع عروب و هي الغنجة.

و فيه، أخرج مسدد في مسنده و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: «ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين» قال: هما جميعا من هذه الأمة.

أقول: و هذا المعنى مروي في غير واحد من الروايات لكن ظاهر آيات السورة أن القسمة لكافة البشر لا لهذه الأمة خاصة، و لعل المراد من هذه الروايات بيان بعض المصاديق و إن كان بعيدا، و كذا المراد مما ورد أن أصحاب اليمين أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، و ما ورد أن أصحاب الشمال أعداء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في المحاسن، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الشرب بنفس واحد فكرهه و قال: ذلك شرب الهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال: الإبل.

و فيه، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه كان يكره أن يتشبه بالهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال الرمل.

أقول: و المعنيان جميعا واردان في روايات أخر.