سُورَةُ النِّسَاءِ

١٥ - ١٦

وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴿١٥ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ﴿١٦

بيان

قوله تعالى: «و اللاتي يأتين الفاحشة» إلى قوله: «منكم» يقال: أتاه و أتى به أي فعله، و الفاحشة من الفحش و هو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة، و قد شاع استعمالها في الزنا، و قد أطلقت في القرآن على اللواط أو عليه و على السحق معا في قوله تعالى: إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين: «العنكبوت: 28».

و الظاهر أن المراد بها هاهنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسرين، و رووا: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر عند نزول آية الجلد أن الجلد هو السبيل الذي جعله الله لهن إذا زنين، و يشهد بذلك ظهور الآية في أن هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى: أو يجعل الله لهن سبيلا، و لم ينقل إن السحق نسخ حده بشيء آخر، و لا أن هذا الحد أجري على أحد من اللاتي يأتينه و قوله: أربعة منكم، يشهد بأن العدد من الرجال.

قوله تعالى: «فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت» إلى آخر الآية رتب الإمساك و هو الحبس المخلد على الشهادة لا على أصل تحقق الفاحشة و إن علم به إذا لم يشهد عليه الشهود و هو من منن الله سبحانه على الأمة من حيث السماحة و الإغماض.

و الحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله: حتى يتوفاهن الموت، غير أنه لم يعبر عنه بالحبس و السجن بل بالإمساك لهن في البيوت، و هذا أيضا من واضح التسهيل و السماحة بالإغماض، و قوله: حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا، أي طريقا إلى التخلص من الإمساك الدائم و النجاة منه.

و في الترديد إشعار بأن من المرجو أن ينسخ هذا الحكم، و هكذا كان فإن حكم الجلد نسخه فإن من الضروري أن الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الإمساك في البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد و السبيل المذكور فيها هو الجلد بلا ريب.

قوله تعالى: «و اللذان يأتيانها منكم فآذوهما»، الآيتان متناسبتان مضمونا و الضمير في قوله: يأتيانها، راجع إلى الفاحشة قطعا، و هذا يؤيد كون الآيتين جميعا مسوقتين لبيان حكم الزنا، و على ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في الأولى فإن الأولى لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم، و الثانية تبين الحكم فيهما معا و هو الإيذاء فيتحصل من مجموع الآيتين حكم الزاني و الزانية معا و هو إيذاؤهما و إمساك النساء في البيوت.

لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد: فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما، فإنه لا يلائم الحبس المخلد فلا بد أن يقال: إن المراد بالإعراض الإعراض عن الإيذاء دون الحبس فهو بحاله.

و لهذا ربما قيل تبعا لما ورد في بعض الروايات و سننقلها إن الآية الأولى لبيان حكم الزنا في الثيب، و الثانية مسوقة لحكم الأبكار و أن المراد بالإيذاء هو الحبس في الأبكار ثم تخلية سبيلهن مع التوبة و الإصلاح، لكن يبقى أولا الوجه في تخصيص الأولى بالثيبات و الثانية بالأبكار من غير دليل يدل عليه من جهة اللفظ، و ثانيا وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الأولى، و ذكرهما معا في الآية الثانية: «و اللذان يأتيانها منكم».

و قد عزي إلى أبي مسلم المفسر أن الآية الأولى لبيان حكم السحق بين النساء، و الآية الثانية تبين حكم اللواط بين الرجال، و الآيتان غير منسوختين.

و فساده ظاهر: أما في الآية الأولى فلما ذكرناه في الكلام على قوله: و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم، و أما في الآية الثانية فلما ثبت في السنة من أن الحد في اللواط القتل، و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: من عمل منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول، و هذا إما حكم ابتدائي غير منسوخ، و إما حكم ناسخ لحكم الآية، و على أي حال يبطل قوله.

و من الممكن: أن يقال في معنى الآيتين نظرا إلى الظاهر السابق إلى الذهن من الآيتين، و القرائن المحفوف بها الكلام، و ما تقدم من الإشكال فيما ذكروه من المعنى - و الله أعلم -: إن الآية متضمنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الأزواج، و يدل عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال، و إطلاق النساء على الأزواج شائع في اللسان و خاصة إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله: نسائكم، قال تعالى: و آتوا النساء صدقاتهن نحلة: «النساء: 4» و قال تعالى: من نسائكم اللاتي دخلتم بهن: «النساء: 23».

و على هذا فقد كان الحكم الأولي المؤجل لهن الإمساك في البيوت ثم شرع لهن الرجم، و ليس نسخا للكتاب بالسنة على ما استدل به الجبائي فإن السنخ إنما هو رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد، و هذا حكم مقرون بما يشعر بأنه مؤجل سينقطع بانقطاعه و هو قوله: أو يجعل الله لهن سبيلا لظهوره في أن هناك حكما سيطلع عليهن، و لو سمي هذا نسخا لم يكن به بأس فإنه غير متضمن لما يلزم نسخ الكتاب بالسنة من الفساد فإن القرآن نفسه مشعر بأن الحكم سيرتفع بانقطاع أمده، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبين لمرادات القرآن الكريم.

و الآية الثانية متضمنة لحكم الزنا من غير إحصان و هو الإيذاء سواء كان المراد به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك، و الآية على هذا منسوخة بآية الجلد من سورة النور، و أما ما ورد من الرواية في كون الآية متضمنة لحكم الأبكار فمن الآحاد و هي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالإرسال، و الله أعلم هذا و لا يخلو مع ذلك من وهن.

قوله تعالى: «فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما» «إلخ» تقييد التوبة بالإصلاح لتحقيق حقيقة التوبة، و تبيين أنها ليست مجرد لفظ أو حالة مندفعة.

بحث روائي

في الصافي، عن تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و اللاتي يأتين الفاحشة الآية هي منسوخة، و السبيل هي الحدود.

و فيه، عن الباقر (عليه السلام): سئل عن هذه الآية فقال: هي منسوخة، قيل: كيف كانت؟ قال: كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود أدخلت بيتا و لم تحدث، و لم تكلم، و لم تجالس، و أوتيت بطعامها و شرابها حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا، قال: جعل السبيل الجلد و الرجم. قيل: قوله: و اللذان يأتيانها منكم؟ قال: يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب، فآذوهما؟ قال تحبس. الحديث.

أقول: القصة أعني كون الحكم المجرى عليهن في صدر الإسلام الإمساك في البيوت حتى الوفاة مما رويت بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و قتادة و مجاهد و غيرهم، و نقل عن السدي أن الحبس في البيوت كان حكما للثيبات، و الإيذاء الواقع في الآية الثانية كان حكما للجواري و الفتيان الذين لم ينكحوا، و قد عرفت ما ينبغي أن يقال في المقام