سُورَةُ الرُّومِ

٤٨ - ٥٣

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿٤٨ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ﴿٤٩ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٥٠ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴿٥١ فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴿٥٢ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴿٥٣

بيان

هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل: أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لما كان عمدة إنكارهم و جحودهم متوجها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقب الاحتجاج بإيئاس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحق.

قوله تعالى: «الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء» إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب الغمام و السماء جهة العلو فكل ما علاك و أظلك فهو سماء و الكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و الودق القطر من المطر و الخلال جمع خلة و هي الفرجة.

و المعنى: الله الذي يرسل الرياح فتحرك و تنشر سحابا و يبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجو كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنه مادة حياتهم و حياة الحيوان و النبات.

قوله تعالى: «و إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين» الإبلاس: اليأس و القنوط.

و ضمير «ينزل» للمطر و كذا ضمير «من قبله» على ما قيل، و عليه يكون «من قبله» تأكيدا لقوله: «من قبل أن ينزل عليهم» و فائدة التأكيد - على ما قيل - الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أن قوله: «من قبل أن ينزل عليهم» يحتمل الفسحة في الزمان فجاء «من قبله» للدلالة على الاتصال و دفع ذلك الاحتمال.

و في الكشاف، أن قوله: «من قبله» من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى: «فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها» و معنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.

انتهى.

و ربما قيل: إن ضمير «من قبله» لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين.

قوله تعالى: «فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى و هو على كل شيء قدير» الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشيء فيدل عليه كأثر القدم و أثر البناء و استعير لكل ما يتفرع على شيء، و المراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتب على نزول المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.

و لذا قال: «فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها» فجعل آثار الرحمة التي هي المطر كيفية إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها من آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضا من آثار الرحمة و التدبير تدبير إلهي يتفرع على خلقة الرياح و السحاب و المطر.

و قوله: «إن ذلك لمحيي الموتى» الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة التي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة.

و المراد بقوله: «إن ذلك لمحيي الموتى» الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة و إحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شيء محفوظ و حياة هي تجدد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقق الإحياء في الأرض و النبات و حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في البعض الآخر.

و قوله: «و هو على كل شيء قدير» تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم القدرة فإن القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلا لزم تقيدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة.

قوله تعالى: «و لئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون» ضمير «فرأوه» للنبات المفهوم من السياق، و قوله «لظلوا» جواب للقسم قائم مقام الجزاء، و المعنى: و أقسم لئن أرسلنا ريحا باردة فضربت زروعهم و أشجارهم بالصفار و رأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه.

ففي الآية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، و إذا أخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلمات من النعم.

و قيل: ضمير «فرأوه» للسحاب لأن السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح فإنه يذكر و يؤنث، و القولان بعيدان.

قوله تعالى: «فإنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون» تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الأحوال من إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقلها فإنهم موتى و صم و عمي و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج و يصدقها فهم مسلمون.

و قد تقدم تفسير الآيتين في سورة النمل.