سُورَةُ مَرۡيَمَ

٦٤ - ٦٥

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴿٦٤ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴿٦٥

بيان

الآيتان معترضتان بين آيات السورة و سياقهما يشهد بأنهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإن النظم نظم قرآني بلا ريب.

و بذلك يتأيد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنة و رواه في مجمع البيان، أيضا عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استبطأ نزول جبريل فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» إلى آخر الآيتين.

و قد تكلف جمع في بيان اتصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إن التقدير: هذا و قال جبريل: و ما نتنزل إلا بأمر ربك إلخ، و قال آخرون: إنهما متصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقا: «إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا» الآية، و ذكر قوم أن قوله: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» إلى آخر الآية من كلام المتقين حين يدخلون الجنة فالتقدير و قال المتقون و ما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك «إلخ» و قيل غير ذلك.

و هي جميعا وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق و لا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها.

و سيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتصال.

قوله تعالى: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» إلى آخر الآية، التنزل هو النزول على مهل و تؤدة فإن تنزل مطاوع نزل يقال: نزله فتنزل و النفي و الاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزل الملائكة إلا بأمر من الله كما قال: «لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون»: التحريم: 6.

و قوله: «له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك» يقال: كذا قدامه و أمامه و بين يديه و المعنى واحد غير أن قولنا: بين يديه إنما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه له فيه نوع من التصرف و التسلط فظاهر قوله: «ما بين أيدينا» أن المراد به ما نشرف عليه مما هو مكشوف علينا مشهود لنا: و ظاهر قوله: «و ما خلفنا» بالمقابلة ما هو غائب عنا مستور علينا.

و على هذا فلو أريد بقوله: «ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك» المكان شمل بعض المكان الذي أمامهم و المكان الذي هم فيه و جميع المكان الذي خلفهم و لم يشمل كل مكان، و كذا لو أريد به الزمان شمل الماضي كله و الحال و المستقبل القريب فقط و سياق قوله: «له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك»، ينادي بالإحاطة و لا يلائم التبعيض.

فالوجه حمل «ما بين أيدينا» على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم التي هم قائمون بها متسلطون عليها، و حمل «ما خلفنا» على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم، و حمل «ما بين ذلك» على وجودهم أنفسهم و هو من أبدع التعبير و ألطفه و بذلك تتم الإحاطة الإلهية بهم من كل جهة لرجوع المعنى إلى أن الله تعالى هو المالك لوجودنا و ما يتعلق به وجودنا من قبل و من بعد.

و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو قدامنا من الزمان المستقبل و بما خلفنا الماضي و بما بين ذلك الحال، و قيل: ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان.

و ما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة و ما بين ذلك هو مدة الحياة و قيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الأولى و ما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية و ما بين ذلك ما بين النفختين و هو أربعون سنة، و قيل: ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا، و قيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق و ما خلفهم ما بعد الفناء و ما بين ذلك ما بين الدنيا و الآخرة، و قيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفهم ما مضى منه و ما بين ذلك ما هم فيه و قيل: المعنى ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدة حياتنا.

و قيل: ما بين أيديهم السماء و ما خلفهم الأرض و ما بين ذلك ما بينهما، و قيل: بعكس ذلك، و قيل: ما بين أيديهم المكان الذي ينتقلون إليه و ما خلفهم المكان الذي ينتقلون منه و ما بين ذلك المكان الذي هم فيه.

و تشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أن الماءات عليها مكانية كما يشترك السبعة في أن الماءات عليها زمانية و هناك قول بكون الآية تعم الزمان و المكان فهذه أحد عشر قولا و لا دليل على شيء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان و الوجه ما قدمناه.

فقوله: «له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك» يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيا لا يجري فيه تصرف غيره و لا إرادة من سواه إلا عن إذن منه و مشية و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلا إلا عن أمره و من بعد إذنه و لا تريد إلا ما أراده الله فلا يتنزل ملك إلا بأمر ربه.

و قد تقرر بهذا البيان أن قوله: «له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك» في مقام التعليل لقوله: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» و أن قوله: «و ما كان ربك نسيا» - و النسي فعول من النسيان - من تمام التعليل أي أنه تعالى لا ينسى شيئا من ملكه حتى يختل بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب و هكذا و كان هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.

و قيل المعنى و ما كان ربك نسيا أي تاركا لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إياك.

و فيه أنه و إن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل بقوله: «له ما بين أيدينا» إلخ، ناقصا و ينقطع قوله: «رب السموات و الأرض و ما بينهما» عما تقدمه كما سيتضح.

قوله تعالى: «رب السموات و الأرض و ما بينهما فاعبده و اصطبر لعبادته هل تعلم له سميا» صدر الآية أعني قوله: «رب السموات و الأرض و ما بينهما» تعليل لقوله في الآية السابقة «له ما بين أيدينا و ما خلفنا» إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيا و هو تعالى رب السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و رب الشيء هو مالكه، المدبر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيته.

و قوله: «فاعبده و اصطبر لعبادته» تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنا لا نتنزل إلا بأمر ربك و قد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمى ربا غير ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمى ربا فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به و ربما قيل: إن الجملة تفريع على قوله: «رب السماوات و الأرض» أو على قوله: «و ما كان ربك نسيا» أي لم ينسك ربك فاعبده «إلخ» و الوجهان كما ترى.

و قد بان بهذا التقرير أمور: أحدها أن قوله: «هل تعلم له سميا» من تمام البيان المقصود بقوله: «فاعبده و اصطبر لعبادته» و هو في مقام التعليل له.

و الثاني أن المراد بالسمي المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الرب لأن مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شيء فهو يقول: هل تعلم من اتصف بالربوبية فسمي لذلك ربا حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.

و بذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السمي في الآية فقد قيل: إن المراد بالسمي المماثل مجازا، و قيل: السمي بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب.

و الثالث: أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الأولى إذ قال: بأمر ربك و قال: و ما كان ربك و لم يقل: ربنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله: «ربك» إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال: «ذكر رحمة ربك» إلخ لأن الآيات كما نبهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.

و الرابع: أن قوله: «فاعبده و اصطبر لعبادته» مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمرا بالعبادة و أمرا بالثبات عليها و إدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك.

و يمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا معترضتين من كل جهة.

فكان ملك الوحي لما تنزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم يتنزل و ليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو رب النبي و رب كل شيء فليعبده وحده فليس هناك رب آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبيتا له و تأكيدا للآيات السابقة.

و هذا نظير أن يرسل ملك رسولا بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل: إني ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو مليكك و مليك عامة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى تعدل عنه إليه.

فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أن الملك، هو الذي أمره أن يعقب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاما للرسول و رسالة أيضا عن قبل الملك و كلامه.

و غير خفي عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقا عليهما مما تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.