سُورَةُ البَقَرَةِ
٢٥٨ - ٢٦٠
بيان
الآيات مشتملة على معنى التوحيد و لذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.
قوله تعالى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، المحاجة إلقاء الحجة قبال الحجة لإثبات المدعى أو لإبطال ما يقابله، و أصل الحجة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، و قوله: في ربه متعلق بحاج، و الضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت، و هذا الذي حاج إبراهيم (عليه السلام) في ربه هو الملك الذي كان يعاصره و هو نمرود من ملوك بابل على ما يذكره التاريخ و الرواية.
و بالتأمل في سياق الآية، و الذي جرى عليه الأمر عند الناس و لا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، و الموضوع الذي وقعت فيه محاجتهما.
بيان ذلك: أن الإنسان لا يزال خاضعا بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثرة فيه، و هذا مما لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الأمم الخالية المتأمل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة و قد بينا ذلك فيما مر من المباحث.
و هو بفطرته يثبت للعالم صانعا مؤثرا فيه بحسب التكوين و التدبير، و قد مر أيضا بيانه، و هذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء و تعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون أو نفي الصانع كما عليه الدهريون و الماديون، فإن الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنسانا و إن قبلت الغفلة و الذهول.
لكن الإنسان الأولي الساذج لما كان يقيس الأشياء إلى نفسه، و كان يرى من نفسه أن أفعاله المختلفة تستند إلى قواه و أعضائه المختلفة، و كذا الأفعال المختلفة الاجتماعية تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، و كذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة و إن كانت جميع الأزمة تجتمع عند الصانع الذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أربابا مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كرب الأرض و رب البحار و رب النار و رب الهواء و الأرياح و غير ذلك، و تارة كان يثبته باسم الكواكب و خاصة السيارات التي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر و المواليد كما نقل عن الصابئين ثم كان يعمل صورا و تماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم و يكون صاحب الصنم شفيعا له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة و الممات.
و لذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الأمم و الأجيال لأن الآراء كانت مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة و تخيل صور أرباب الأنواع المحكية بأصنامها، و ربما لحقت بذلك أميال و تهوسات أخرى.
و ربما انجر الأمر تدريجا إلى التشبث بالأصنام و نسيان أربابها حتى رب الأرباب لأن الحس و الخيال كان يزين ما ناله لهم، و كان يذكرها و ينسى ما وراءها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كل ذلك إنما كان منهم لأنهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيرا في شئون حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، و تستعلي تدبيرها على تدبيرهم.
و ربما كان يستفيد بعض أولي القوة و السطوة و السلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك و نفوذ أمره في شئون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام و يدعي الألوهية كما ينقل عن فرعون و نمرود و غيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب و إن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، و هذا و إن كان في بادىء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره و نفوذ أمره عند الحس كان يوجب تقدمه عند عباده على سائر الأرباب و غلبة جانبه على جانبها، و قد تقدمت الإشارة إليه آنفا كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه: «أنا ربكم الأعلى:» النازعات - 24، فقد كان يدعي أنه أعلى الأرباب مع كونه ممن يتخذ الأرباب كما قال تعالى: «و يذرك و آلهتك:» الأعراف - 127، و كذلك كان يدعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا أحيي و أميت، في هذه الآية على ما سنبين.
و ينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجة الواقعة بين إبراهيم (عليه السلام) و نمرود، فإن نمرود كان يرى لله سبحانه ألوهية، و لو لا ذلك لم يسلم لإبراهيم (عليه السلام) قوله: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، و لم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أن بعض الآلهة الأخرى يأتي بها من المشرق، و كان يرى أن هناك آلهة أخرى دون الله سبحانه، و كذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدل عليه عامة قصص إبراهيم (عليه السلام) كقصة الكوكب و القمر و الشمس و ما كلم به أباه في أمر الأصنام و ما خاطب به قومه و جعله الأصنام جذاذا إلا كبيرا لهم و غير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى ألوهية، و أن معه آلهة أخرى لكنه كان يرى لنفسه ألوهية، و أنه أعلى الآلهة، و لذلك استدل على ربوبيته عند ما حاج إبراهيم (عليه السلام) في ربه، و لم يذكر من أمر الآلهة الأخرى شيئا. و من هنا يستنتج أن المحاجة التي وقعت بينه و بين إبراهيم (عليه السلام) هي، أن إبراهيم (عليه السلام) كان يدعي أن ربه الله لا غير و نمرود كان يدعي أنه رب إبراهيم و غيره و لذلك لما احتج إبراهيم (عليه السلام) على دعواه بقوله: ربي الذي يحيي و يميت، قال: أنا أحيي و أميت، فادعى أنه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه أن يخضع له و يشتغل بعبادته دون الله سبحانه و دون الأصنام، و لم يقل: و أنا أحيي و أميت لأن لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيته و لم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعين بالتفوق كما عرفت، و لم يقل أيضا: و الآلهة تحيي و تميت.
و لم يعارض إبراهيم (عليه السلام) بالحق، بل بالتمويه و المغالطة و تلبيس الأمر على من حضر، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما أراد بقوله: ربي الذي يحيي و يميت، الحياة و الموت المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة فإن هذه الحياة المجهولة لكنه لا يستطيع أن يوجدها إلا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، و لا بشيء من هذه الموجودات الحية، فإن حياتها هي وجودها، و موتها عدمها، و الشيء لا يقوى لا على إيجاد نفسه و لا على إعدام نفسه، و لو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشيء لكنه غالط فأخذ الحياة و الموت بمعناهما المجازي أو الأعم من معناهما الحقيقي و المجازي فإن الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شيء كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، و كذا الإماتة تطلق على التوفي و هو فعل الله و على مثل القتل بآلة قتالة، و عند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما و إطلاق الآخر فقتل هذا و أطلق ذاك فقال: أنا أحيي و أميت، و لبس الأمر على الحاضرين فصدقوه فيه، و لم يستطع لذلك إبراهيم (عليه السلام) أن يبين له وجه المغالطة، و أنه لم يرد بالإحياء و الإماتة هذا المعنى المجازي، و أن الحجة لا تعارض الحجة، و لو كان في وسعه (عليه السلام) ذلك لبينه، و لم يكن ذلك إلا لأنه شاهد حال نمرود في تمويهه، و حال الحضار في تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنه لو بين وجه المغالطة لم يصدقه أحد، فعدل إلى حجة أخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشيء فقال إبراهيم (عليه السلام): إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، و ذلك أن الشمس و إن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب و القمر من قصته (عليه السلام) لكنها و ما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع و الغروب مما يستند بالآخرة إلى الله الذي كانوا يرونه رب الأرباب، و الفاعل الإرادي إذا اختار فعلا بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإن الأمر يدور مدار الإرادة، و بالجملة لما قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إن هذا الأمر المستمر الجاري على وتيرة واحدة و هو طلوعها من المشرق دائما أمر اتفاقي لا يحتاج إلى سبب، و لا كان يسعه أن يقول: إنه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك، و لا كان يسعه أن يقول: إني أنا الذي آتيها من المشرق و إلا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجرا و بهته، و الله لا يهدي القوم الظالمين.
قوله تعالى: أن آتيه الله الملك، ظاهر السياق: أنه من قبيل قول القائل: أساء إلي فلان لأني أحسنت إليه يريد: أن إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلي لكنه بدل الإحسان من الإساءة فأساء إلي، و قولهم: و اتق شر من أحسنت إليه، قال الشاعر: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر.
و حسن فعل كما يجزى سنمار.
فالجملة أعني قوله: أن آتيه الله الملك بتقدير لام التعليل و هي من قبيل وضع الشيء موضع ضده للشكوى و الاستعداء و نحوه، فإن عدوان نمرود و طغيانه في هذه المحاجة كان ينبغي أن يعلل بضد إنعام الله عليه بالملك، لكن لما لم يتحقق من الله في حقه إلا الإحسان إليه و إيتاؤه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى: «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا:» القصص - 8، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.
و هناك نكتة أخرى و هي: الدلالة على رداءة دعواه من رأس، و ذلك أنه إنما كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنما كان نمرود الملك ذا السلطة و السطوة بنعمة من ربه، و أما هو في نفسه فلم يكن إلا واحدا من سواد الناس لا يعرف له وصف، و لا يشار إليه بنعت، و لهذا لم يذكر اسمه و عبر عنه بقوله: الذي حاج إبراهيم في ربه، دلالة على حقارة شخصه و خسة أمره.
و أما نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مر في المباحث السابقة: أنه لا محذور فيه، فإن الملك و هو نوع سلطنة منبسطة على الأمة كسائر أنواع السلطنة و القدرة نعمة من الله و فضل يؤتيه من يشاء، و قد أودع في فطرة الإنسان معرفته، و الرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة و سعادة، قال تعالى: «و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة:» القصص - 77، و إن عدا طوره و انحرف به عن الصراط كان في حقه نقمة و بوارا، قال تعالى: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار:» إبراهيم - 28، و قد مر بيان أن لكل نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى و تقدس من جهة الحسن الذي فيه دون جهة القبح و المساءة.
و من هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسرين: أن الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيم (عليه السلام)، و المراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما:» النساء - 54، لا ملك نمرود لكونه ملك جور و معصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.
ففيه أولا: أن القرآن ينسب هذا الملك و ما في معناه كثيرا إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون: «يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض:» المؤمن - 29 و، قوله تعالى حكاية عن فرعون - و قد أمضاه بالحكاية -: «يا قوم أ ليس لي ملك مصر:» الزخرف - 51، و قد قال تعالى: «له الملك:» التغابن - 1، فقصر كل الملك لنفسه فما من ملك إلا و هو منه تعالى، و قال تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): «ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة:» يونس - 88، و قال تعالى في قارون: «و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة:» القصص - 76، و قال تعالى خطابا لنبيه: «ذرني و من خلقت وحيدا و جعلت له مالا ممدودا» - إلى أن قال -: «و مهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد:» المدثر - 15، إلى غير ذلك.
و ثانيا: أن ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإن ظاهرها أن نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده و إيمانه لا أنه كان ينازعه و يحاجه في ملكه فإن ملك الظاهر كان لنمرود، و ما كان يرى لإبراهيم ملكا حتى يشاجره فيه.
و ثالثا: أن لكل شيء نسبة إلى الله سبحانه و الملك من جملة الأشياء و لا محذور في نسبته إليه تعالى و قد مر تفصيل بيانه.
قوله تعالى: قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت، الحياة و الموت و إن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضا كالنبات، و قد صدقه القرآن كما مر بيانه في تفسير آية الكرسي، لكن مراده (عليه السلام) منهما إما خصوص الحياة و الممات الحيوانيين أو الأعم الشامل له لإطلاق اللفظ، و الدليل على ذلك قول نمرود: أنا أحيي و أميت، فإن هذا الذي ادعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث و الغرس مثلا، و لا إحياء الحيوان بالسفاد و التوليد مثلا، فإن ذلك و أشباهه كان لا يختص به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، و هذا يؤيد ما وردت به الروايات: أنه أمر بإحضار رجلين ممن كان في سجنه فأطلق أحدهما و قتل الآخر، و قال عند ذلك: أنا أحيي و أميت.
و إنما أخذ (عليه السلام) في حجته الإحياء و الإماتة لأنهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، و خاصة الحياة التي في الحيوان حيث تستتبع الشعور و الإرادة و هما أمران غير ماديين قطعا، و كذا الموت المقابل لها، و الحجة على ما فيها من السطوع و الوضوح لم تنجح في حقهم، لأن انحطاطهم في الفكر و خبطهم في التعقل كان فوق ما كان يظنه (عليه السلام) في حقهم، فلم يفهموا من الإحياء و الإماتة إلا المعنى المجازي الشامل لمثل الإطلاق و القتل، فقال نمرود: أنا أحيي و أميت و صدقه من حضره، و من سياق هذه المحاجة يمكن أن يحدس المتأمل ما بلغ إليه الانحطاط الفكري يومئذ في المعارف و المعنويات، و لا ينافي ذلك الارتقاء الحضاري و التقدم المدني الذي يدل عليه الآثار و الرسوم الباقية من بابل كلدة و مصر الفراعنة و غيرهما، فإن المدنية المادية أمر و التقدم في معنويات المعارف أمر آخر، و في ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيتها و انحطاطها في الأخلاق و المعارف المعنوية ما تسقط به هذه الشبهة.
و من هنا يظهر: وجه عدم أخذه (عليه السلام) في حجته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات و الأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين:» الأنعام - 79، فإن القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالا كانوا أنزل سطحا من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه و يتضح مراده (عليه السلام)، و ناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربي الذي يحيي و يميت.
قوله تعالى: قال أنا أحيي و أميت، أي فأنا ربك الذي وصفته بأنه يحيي و يميت.
قوله تعالى: قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر، لما أيس (عليه السلام) من مضي احتجاجه بأن ربه الذي يحيي و يميت، لسوء فهم الخصم و تمويهه و تلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء و الإماتة إلى حجة أخرى، إلا أنه بنى هذه الحجة الثانية على دعوى الخصم في الحجة الأولى كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: فإن الله «إلخ»، و المعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنك ربي و من شأن الرب أن يتصرف في تدبير أمر هذا النظام الكوني فالله سبحانه يتصرف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرف أنت بإتيانها من المغرب حتى يتضح أنك رب كما أن الله رب كل شيء أو أنك الرب فوق الأرباب فبهت الذي كفر، و إنما فرع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن أن الحجة الأولى تمت لنمرود و أنتجت ما ادعاه، و لذلك أيضا قال: فإن الله و لم يقل: فإن ربي لأن الخصم استفاد من قوله: ربي سوءا و طبقه على نفسه بالمغالطة فأتى (عليه السلام) ثانيا بلفظة الجلالة ليكون مصونا عن مثل التطبيق السابق! و قد مر بيان أن نمرود ما كان يسعه أن يتفوه في مقابل هذه الحجة بشيء دون أن يبهت فيسكت.
قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الظالمين، ظاهر السياق أنه تعليل لقوله فبهت الذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إياه لا كفره، و بعبارة أخرى معناه أن الله لم يهده فبهت لذلك و لو هداه لغلب على إبراهيم في الحجة لا أنه لم يهده فكفر لذلك و ذلك لأن العناية في المقام متوجهة إلى محاجته إبراهيم (عليه السلام) لا إلى كفره و هو ظاهر.
و من هنا يظهر: أن في الوصف إشعارا بالعلية أعني: أن السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقول: «و من أظلم ممن افترى على الله الكذب و هو يدعى إلى الإسلام و الله لا يهدي القوم الظالمين:» الصف - 7، و قوله: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله و الله لا يهدي القوم الظالمين:» الجمعة - 5، و نظير الظلم الفسق في قوله تعالى: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين:» الصف - 5.
و بالجملة الظلم و هو الانحراف عن صراط العدل و العدول عما ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغي موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، و مؤد إلى الخيبة و الخسران بالأخرة، و هذه من الحقائق الناصعة التي ذكرها القرآن الشريف و أكد القول فيها في آيات كثيرة.
كلام في الإحسان و هدايته و الظلم و إضلاله
هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفا و هي كلية لا تقبل الاستثناء و قد ذكرها بالسنة مختلفة، و بنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، دل على أن كل شيء بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده و كمالات ذاته، و ليس ذلك إلا بارتباطه مع غيره من الأشياء و استفادته منها بالفعل و الانفعال بالاجتماع و الافتراق و الاتصال و الانفصال و القرب و البعد و الأخذ و الترك و نحو ذلك، و من المعلوم أن الأمور التكوينية لا تغلط في آثارها، و القصود الواقعية لا تخطي و لا تخبط في تشخيص غاياتها و مقاصدها، فالنار في مسها الحطب مثلا و هي حارة لا تريد تبريده، و النامي كالنبات مثلا و هو نام لا يقصد إلا عظم الحجم دون صغره و هكذا، و قد قال تعالى: «إن ربي على صراط مستقيم:» هود - 56، فلا تخلف و لا اختلاف في الوجود.
و لازم هاتين المقدمتين أعني عموم الهداية و انتفاء الخطإ في التكوين أن يكون لكل شيء روابط حقيقية مع غيره، و أن يكون بين كل شيء و بين الآثار و الغايات التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته و الأثر المخصوص المقصود منه، و كذلك الغايات و المقاصد الوجودية إنما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصة بها و السبل الموصلة إليها، فالبذرة إنما تنبت الشجرة التي في قوتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدي إليها بأسبابها و شرائطها الخاصة، و كذلك الشجرة إنما تثمر الثمرة التي من شأنها أثمارها، فما كل سبب يؤدي إلى كل مسبب، قال تعالى: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا:» الأعراف - 58، و العقل و الحس يشهدان بذلك و إلا اختل قانون العلية العام.
و إذا كان كذلك فالصنع و الإيجاد يهدي كل شيء إلى غاية خاصة، و لا يهديه إلى غيرها، و يهدي إلى كل غاية من طريق خاص لا يهدي إليها من غيره، صنع الله التي أتقن كل شيء، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة إلى غاية و أثر إذا فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل أثرها لا محالة، هذا في الأمور التكوينية.
و الأمور غير التكوينية من الاعتبارات الاجتماعية و غيرها على هذا الوصف أيضا من حيث إنها نتائج الفطرة المتكئة على التكوين، فالشئون الاجتماعية و المقامات التي فيه و الأفعال التي تصدر عنها كل منها مرتبط بآثار و غايات لا تتولد منه إلا تلك الآثار و الغايات و لا تتولد هي إلا منه، فالتربية الصالحة لا تتحقق إلا من مرب صالح و المربي الفاسد لا يترتب على تربيته إلا الأثر الفاسد ذاك الفساد المكمون في نفسه و إن تظاهر بالصلاح و لازم الطريق المستقيم في تربيته، و ضرب على الفساد المطوي في نفسه بمائة ستر و احتجب دونه بألف حجاب، و كذلك الحاكم المتغلب في حكومته، و القاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، و كل من تقلد منصبا اجتماعيا من غير طريقه المشروع، و كذلك كل فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبه بالحق و حل بذلك محل الفعل الحق، و القول الباطل إذا وضع موضع القول الحق كالخيانة موضع الأمانة و الإساءة موضع الإحسان و المكر موضع النصح و الكذب موضع الصدق فكل ذلك سيظهر أثرها و يقطع دابرها و إن اشتبه أمرها أياما، و تلبس بلباس الصدق و الحق أحيانا، سنة الله التي جرت في خلقه و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.
فالحق لا يموت و لا يتزلزل أثره، و إن خفي على إدراك المدركين أويقات، و الباطل لا يثبت و لا يبقى أثره، و إن كان ربما اشتبه أمره و وباله، قال تعالى: «ليحق الحق و يبطل الباطل:» الأنفال: - 8، من تحقيق الحق تثبيت أثره، و من إبطال الباطل ظهور فساده و انتزاع ما تلبس به من لباس الحق بالتشبه و التمويه، و قال تعالى: «أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء:» إبراهيم - 27، و قد أطلق الظالمين فالله يضلهم في شأنهم، و لا شأن لهم إلا أنهم يريدون آثار الحق من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف الصديق: «قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون:» يوسف - 23، فالظالم لا يفلح في ظلمه، و لا أن ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه و المتقي بتقواه، قال تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت - 69، و قال تعالى: «و العاقبة للتقوى:» طه - 132.
و الآيات القرآنية في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرقة، و من أجمعها و أتمها بيانا فيه قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال:» الرعد - 17.
و قد مرت الإشارة إلى أن العقل يؤيده، فإن ذلك لازم كلية قانون العلية و المعلولية الجارية بين أجزاء العالم و إن التجربة القطعية الحاصلة من تكرر الحس تشهد به، فما منا من أحد إلا و في ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين و انقطاع دابرهم.
قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خواء إذا خلت، و العروش جمع العرش و هو ما يعمل مثل السقف للكرم قائما على أعمدة، قال تعالى: «جنات معروشات و غير معروشات:» الأنعام - 141، و من هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكن بينهما فرقا، فإن السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران و العرش هو السقف مع الأركان التي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، و لذا صح أن يقال في الديار إنها خالية على عروشها و لا يصح أن يقال: خالية على سقفها.
و قد ذكر المفسرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالذي، فقيل: إنه عطف على قوله في الآية السابقة: الذي حاج إبراهيم، و الكاف اسمية، و المعنى أو هل رأيت مثل الذي مر على قرية «إلخ»، و قد جيء بهذا الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد، و قيل: بل الكاف زائدة، و المعنى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية «إلخ»، و قيل: إنه عطف محمول على المعنى، و المعنى: أ لم تر كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، و قيل: إنه من كلام إبراهيم جوابا عن دعوى الخصم أنه يحيي و يميت، و التقدير: و إن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مر على قرية «إلخ» فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى.
و أظن - و الله أعلم - أن العطف على المعنى كما مر في الوجه الثالث إلا أن التقدير غير التقدير، توضيحه: أن الله سبحانه لما ذكر قوله: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصل من ذلك: أنه يهدي المؤمنين إلى الحق و لا يهدي الكافر في كفره بل يضله أولياؤه الذين اتخذته من دون الله أولياء، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاث يبين بها أقسام هدايته تعالى، و هي مراتب ثلاث مترتبة: أولاها: الهداية إلى الحق بالبرهان و الاستدلال كما في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، حيث هدى إبراهيم إلى حق القول، و لم يهد الذي حاجه بل أبهته و أضله كفره، و إنما لم يصرح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدل على فائدة جديدة يدل عليها قوله: و الله لا يهدي القوم الظالمين.
و الثانية: الهداية إلى الحق بالإراءة و الإشهاد كما في قصة الذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها فإنه بين له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته و إحيائه و سائر ما ذكره في الآية، كل ذلك بالإراءة و الإشهاد.
الثالثة: الهداية إلى الحق و بيان الواقعة بإشهاد الحقيقة و العلة التي تترشح منه الحادثة، و بعبارة أخرى بإراءة السبب و المسبب معا، و هذا أقوى مراتب الهداية و البيان و أعلاها و أسناها كما أن من كان لم ير الجبن مثلا و ارتاب في أمره تزاح شبهته تارة بالاستشهاد بمن شاهده و أكل منه و ذاق طعمه.
و تارة بإراءته قطعة من الجبن و إذاقته طعمه و تارة بإحضار الحليب و عصارة الإنفحة و خلط مقدار منها به حتى يجمد ثم إذاقته شيئا منه و هي أنفى المراتب للشبهة.
إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن المقام في الآيات الثلاث - و هو مقام الاستشهاد - يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: أ لم تر إلى قصة إبراهيم و نمرود، أو لم تر إلى قصة الذي مر على قرية، أو لم تر إلى قصة إبراهيم و الطير، أو يقال إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: إما كما هدى إبراهيم في قصة المحاجة و هي نوع من الهداية، أو كالذي مر على قرية و هي نوع آخر، أو كما في قصة إبراهيم و الطير و هي نوع آخر، أو يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق و أذكرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة، و اذكر الذي مر على قرية، و اذكر إذ قال إبراهيم رب أرني.
فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أن الله سبحانه أخذ بالتفنن في البيان و خص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطا لذهن المخاطب و استيفاء لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء.
و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: أو كالذي، معطوف على مقدر يدل عليه الآية السابقة، و التقدير: إما كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، و يظهر أيضا أن قوله في الآية التالية: و إذ قال إبراهيم، معطوف على مقدر مدلول عليه بالآية السابقة و التقدير: اذكر قصة المحاجة و قصة الذي مر على قرية، و اذكر إذ قال إبراهيم رب أرني «إلخ».
و قد أبهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية و اسم القرية و القوم الذين كانوا يسكنونها، و القوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله و لنجعلك آية للناس، مع أن الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.
لكن الآية و هي الإحياء بعد الموت و كذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما كانت أمرا عظيما، و قد وقعت موقع الاستبعاد و الاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة و الاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب و السامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال و عظائم الأمور بالتصغير و التهوين تعظيما لمقام أنفسهم، و لذلك أبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله، و لذلك أيضا أبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة و أبهم جهات القصة من أسماء الطيور و أسماء الجبال و عدد الأجزاء و غيرها في الآية اللاحقة.
و أما التصريح باسم إبراهيم (عليه السلام) فإن للقرآن عناية تشريف به (عليه السلام)، قال تعالى: «و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه:» الأنعام - 83، و قال تعالى: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين:» الأنعام - 75، ففي ذكره (عليه السلام) بالاسم عناية خاصة.
و لما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الإحياء و الإماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة و الاستصغار، قال تعالى: «و هو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه و له المثل الأعلى في السموات و الأرض و هو العزيز الحكيم:» الروم - 27، و قال تعالى: «قال رب أنى يكون لي غلام - إلى قوله: - قال ربك هو علي هين و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا:» مريم - 9.
قوله تعالى: قال أنى يحيي هذه الله، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى: «و اسأل القرية»: يوسف - 82.
و إنما قال هذا القول استعظاما للأمر و لقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي إلى الإنكار أو ينشأ منه، و الدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصة: أعلم أن الله على كل شيء قدير و لم يقل: الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: «الآن حصحص الحق»: يوسف - 51، و سيجيء توضيحه قريبا.
على أن الرجل نبي مكلم و آية مبعوثة إلى الناس و الأنبياء معصومون حاشاهم عن الشك و الارتياب في البعث الذي هو أحد أصول الدين.
قوله تعالى: فأماته الله مائة عام ثم بعثه، ظاهره توفيه بقبض روحه و إبقاؤه على هذا الحال مائة عام ثم إحياؤه برد روحه إليه.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الأطباء بالسبات و هو أن يفقد الموجود الحي الحس و الشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان، أياما أو شهورا أو سنين، كما أنه الظاهر من قصة أصحاب الكهف و رقودهم ثلاثمائة و تسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة و احتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة.
قال: و الذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مائة سنة أمر غير مألوف و خارق للعادة لكن القادر على توفي الإنسان بالسبات زمانا كعدة سنين قادر على إلقاء السبات مائة سنة، و لا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى و أخذها على ظاهرها إلا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتج الله بهذا السبات و رجوع الحس و الشعور إليه ثانيا بعد سلبه مائة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم ألوفا من السنين، هذا ملخص ما ذكره.
و ليت شعري كيف يصح الحكم بكون الإماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات «على تقدير تسليمه» بمجرد شباهة ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى: فأماته الله، في الموت المعهود دون السبات الذي اختلقه للآية؟ و هل هو إلا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، و هو أمر الدلالة؟ و إذا جاز أن يلقي الله على رجل سبات مائة سنة مع كونه خرقا للعادة فليجز له إماتته مائة سنة ثم إحياؤه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق و خارق إلا أن هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالا من غير دليل يدل عليه، و قد تأول لذلك أيضا قوله تعالى في ذيل الآية: و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، و سيجيء التعرض له.
و بالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مائة عام، من حيث ظهور اللفظ و بالنظر إلى قوله قبله: أنى يحيي هذه الله، و قوله بعده: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه و انظر إلى حمارك و قوله: و انظر إلى العظام، مما لا ريب فيه.
قوله تعالى: قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام، اللبث هو المكث و ترديد الجواب بين اليوم و بعض اليوم يدل على اختلاف وقت إماتته و إحيائه كأوائل النهار و أواخره، فحسب الموت و الحياة نوما و انتباها، ثم شاهد اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين و عدم تخللها فقال يوما لو تخللت الليلة أو بعض يوم لو لم تتخلل قال: بل لبثت مائة عام.
قوله تعالى: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه إلى قوله لحما، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله: انظر ثلاث مرات و كان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، و ذكر فيها أمر الطعام و الشراب و الحمار و الظاهر السابق إلى الذهن أنه لم يكن إلى ذكرها حاجة، و جيء بقوله: و لنجعلك متخللا في الكلام و كان الظاهر أن يتأخر عن جملة: و انظر إلى العظام، على أن بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية - و هو إحياء الموتى بعد طول المدة و عروض كل تغير عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لأن يؤمر ثانيا بالنظر إلى العظام؟ لكن التدبر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيات القصة إيضاحا ينحل به العقدة و تنجلي به الشبهة المذكورة.
القصة
التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله، عالما بمقام ربه، مراقبا لأمره، بل نبيا مكلما فإن ظاهر قوله: أعلم أن الله، أنه بعد تبين الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، و ظاهر قوله تعالى: ثم بعثه قال كم لبثت، إنه كان مأنوسا بالوحي و التكليم، و أن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه و إلا كان حق الكلام أن يقال: فلما بعثه قال «إلخ» أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى (عليه السلام): «فلما أتيها نودي يا موسى إني أنا ربك»: طه - 12، و قوله تعالى فيه أيضا: «فلما أتيها نودي من شاطىء الوادي الأيمن:» القصص - 30.
و كيف كان فقد كان (عليه السلام) خرج من داره قاصدا مكانا بعيدا عن قريته التي كان بها، و الدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، و حمله طعاما و شرابا يتغذى بهما، فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها، و لم يكن قاصدا نفس القرية، و إنما مر بها مرورا ثم وقف معتبرا بما يشاهده من أمر القرية الخربة التي كان قد أبيد أهلها و شملتهم نازلة الموت و عظامهم الرميمة بمرأى و منظر منه (عليه السلام)، فإنه يشير إلى الموتى بقوله: أنى يحيي هذه الله، و لو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها و الإشارة إلى نفس القرية لكان حق الكلام أن يقال: أنى يعمر هذه الله.
على أن القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها، و لا أن عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة، و لو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين و قد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره و الصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.
ثم إنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع ما يصاحبه من تحولها من حال إلى حال، و تطورها من صورة إلى صورة بحيث يصير الأصل نسيا منسيا، و عند ذلك قال: أنى يحيي هذه الله، و قد كان هذا الكلام ينحل إلى جهتين: «إحداهما»: استعظام طول المدة و الإحياء مع ذلك، «و الثانية»: استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير المحصورة، فبين الله له الأمر من الجهتين جميعا: أما من الجهة الأولى فبإماتته ثم إحيائه و سؤاله و أما من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر و مرأى منه.
فأماته الله مائة عام ثم بعثه، و قد كان الإماتة و الإحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مر ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوما أو بعض يوم نظرا إلى اختلاف الوقتين، و قد كان موته في الطرف المقدم من النهار و بعثه في الطرف المؤخر منه و لو كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوما من غير ترديد، فرد الله سبحانه عليه و قال: بل لبثت مائة عام، فرأى من نفسه أنه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه جواب ما استعظمه من طول المكث.
ثم استشهد تعالى على قوله: بل لبثت مائة عام بقوله: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه و انظر إلى حمارك! و ذلك: أن قوله: لبثت يوما أو بعض يوم يدل على أنه لم يحس بشيء من طول المدة و قصره، و إنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظل و نحوهما، فلما أجيب بقوله تعالى: بل لبثت مائة عام كان الجواب في مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه و لم يتغير شيء من هيئة بدنه، و الإنسان إذا مات و مضى عليه مائة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من النضارة و الطراوة و كان ترابا و عظاما رميمة، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن أن يخطر بباله بأمره أن ينظر إلى طعامه و شرابه لم يتغير شيء منهما عما كان عليه و أن ينظر إلى الحمار و قد صار عظاما رميمة، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث و حال الطعام و الشراب يدل على إمكان أن يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير أن يتغير شيء من هيئته عما هي عليه.
و من هنا يظهر أن الحمار أيضا قد أميت و كان رميما و كان السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.
و بالجملة تم عند ذلك البيان الإلهي: أن استعظامه طول المدة قد كان في غير محله حيث أخذ الله منه الاعتراف بأن مائة سنة - مدة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبين له أن تخلل الزمان بين الإماتة و الإحياء بالطول و القصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شيء، فليست قدرة مادية زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى: «إنهم يرونه بعيدا و نريه قريبا»: المعارج - 7، و قال تعالى: «و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر:» النحل - 77.
ثم قال تعالى: و لنجعلك آية للناس، عطف الغاية يدل على أن هناك غيرها من الغايات، و المعنى أنا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا و كذا و لنجعلك آية للناس فبين أن الغرض الإلهي لم يكن في ذلك منحصرا في بيان الأمر له نفسه بل هناك غاية أخرى و هي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: و انظر إلى العظام «إلخ» بيان الأمر له فقط و من إماتته و إحيائه بيان الأمر له و جعله آية للناس، و لذلك قدم قوله: و لنجعلك «إلخ» على قوله: و انظر إلى العظام «إلخ».
و مما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرات في الآية، فلكل واحد من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره.
و كان في إماتته و إحيائه و بيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون:» الروم - 56.
ثم بين الله له الجهة الثانية التي يشتمل عليه قوله: أنى يحيي هذه الله و هو: أنه كيف يعود الأجزاء إلى صورتها بعد كل هذه التغيرات و التحولات الطارئة عليها و استلفت نظره إلى العظام فقال: و انظر إلى العظام كيف ننشزها و الإنشاز الإنماء، و ظاهر الآية أن المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام أهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: و لنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الذين أحياهم الله تعالى!.
و من الغريب ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعظام العظام التي في الأبدان الحية فإنها في نمائها و اكتسائها باللحم من آيات البعث، فإن الذي أعطاها الرشد و النماء بالحياة لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير، و قد احتج الله على البعث بمثلها و هو الأرض الميتة التي يحييها الله بالإنبات، و هذا كما ترى تكلف من غير موجب.
و قد تبين من جميع ما مر أن جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: فأماته الله إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرر لقوله: أنى يحيي هذه الله.
قوله تعالى: فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير، رجوع منه بعد التبين إلى علمه الذي كان معه قبل التبين، كأنه (عليه السلام) لما خطر بباله الخاطر الذي ذكره بقوله: أنى يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة ثم لما بين الله له الأمر بيان إشهاد و عيان رجع إلى نفسه و صدق ما اعتمد عليه من العلم، و قال لم تزل تنصح لي و لا تخونني في هدايتك و تقويمك و ليس ما لا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلا، بل علم يليق بالاعتماد عليه.
و هذا أمر كثير النظائر فكثيرا ما يكون للإنسان علم بشيء ثم يخطر بباله و يهجس في نفسه خاطر ينافيه، لا للشك و بطلان العلم، بل لأسباب و عوامل أخرى فيقنع نفسه حتى تنكشف الشبهة ثم يعود فيقول أعلم أن كذا كذا و ليس كذا كذا فيقرر بذلك علمه و يطيب نفسه!.
و ليس معنى الكلام: أنه لما تبين له الأمر حصل له العلم و قد كان شاكا قبل ذلك فقال أعلم «إلخ» كما مرت الإشارة إليه لأن الرجل كان نبيا مكلما و ساحة الأنبياء منزه عن الجهل بالله و خاصة في مثل صفة القدرة التي هي من صفات الذات أولا: و لأن حق الكلام حينئذ أن يقال: علمت أو ما يؤدي معناه ثانيا: و لأن حصول العلم بتعلق القدرة بإحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلقها بكل شيء و قد قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، نعم ربما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الإحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده و ذهلت نفسه عن سائر الأمور فحكم بأن الذي يحيي الموتى يقدر على كل ما يريد أو أريد منه، لكنه اعتقاد حدسي معلول الروع و الاستعظام النفسانيين المذكورين، يزول بزوالهما و لا يوجد لمن لم يشاهد ذلك، و على أي حال لا يستحق التعويل و الاعتماد عليه، و حاشا أن يعد الكلام الإلهي مثل هذا الاعتقاد و القول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهي كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصة: فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، على أنه خطأ في القول لا يليق بساحة الأنبياء ثالثا.
قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قد مر أنه معطوف على مقدر و التقدير: و اذكر إذ قال «إلخ» و هو العامل في الظرف، و قد احتمل بعضهم أن يكون عامل الظرف هو قوله: قال أ و لم تؤمن، و ترتيب الكلام: أ و لم تؤمن إذ قال إبراهيم رب أرني «إلخ» و ليس بشيء.
و في قوله: أرني كيف تحيي الموتى، دلالة: أولا على أنه (عليه السلام) إنما سأل الرؤية دون البيان الاستدلالي، فإن الأنبياء و خاصة مثل النبي الجليل إبراهيم الخليل أرفع قدرا من أن يعتقد البعث و لا حجة له عليه، و الاعتقاد النظري من غير حجة عليه إما اعتقاد تقليدي أو ناش عن اختلال فكري و شيء منهما لا ينطبق على إبراهيم (عليه السلام)، على أنه (عليه السلام) إنما سأل ما سأل بلفظ كيف، و إنما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشيء لا عن أصل وجوده فإنك إذا قلت: أ رأيت زيدا كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية، و إذا قلت: كيف رأيت زيدا كان أصل الرؤية مفروغا عنه و إنما السؤال عن خصوصيات الرؤية، فظهر أنه (عليه السلام) إنما سأل البيان بالإراءة و الإشهاد لا بالاحتجاج و الاستدلال.
و ثانيا: على أن إبراهيم (عليه السلام) إنما سأل أن يشاهد كيفية الإحياء لا أصل الإحياء كما أنه ظاهر قوله: كيف تحيي الموتى، و هذا السؤال متصور على وجهين: الوجه الأول: أن يكون سؤالا عن كيفية قبول الأجزاء المادية الحياة، و تجمعها بعد التفرق و التبدد، و تصورها بصورة الحي، و يرجع محصله إلى تعلق القدرة بالإحياء بعد الموت و الفناء.
الوجه الثاني: أن يكون عن كيفية إفاضة الله الحياة على الأموات و فعله بأجزائها الذي به تلبس الحياة، و يرجع محصله إلى السؤال عن السبب و كيفية تأثيره، و هذا بوجه هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عز من قائل: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء:» يس - 83.
و إنما سأل إبراهيم (عليه السلام) عن الكيفية بالمعنى الثاني دون المعنى الأول: أما أولا: فلأنه قال: كيف تحيي الموتى، بضم التاء من الإحياء فسأل عن كيفية الإحياء الذي هو فعل ناعت لله تعالى و هو سبب حياة الحي بأمره، و لم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالا عن كيفية تجمع الأجزاء و عودها إلى صورتها الأولى و قبولها الحياة، و لو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن يرد على الصورة الثانية، و أما ثانيا: فلأنه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الأجزاء للحياة لم يكن لإجراء الأمر بيد إبراهيم وجه، و لكفى في ذلك أن يريد الله إحياء شيء من الحيوان بعد موته، و أما ثالثا: فلأنه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن يقال: و أعلم أن الله على كل شيء قدير لا بقوله: و اعلم أن الله عزيز حكيم، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزة و الحكمة فإن العزة و الحكمة - و هما وجدان الذات كل ما تفقده و تستحقه الأشياء و إحكامه في أمره - إنما ترتبطان بإفاضة الحياة لا استفاضة المادة لها فافهم ذلك.
و مما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن إبراهيم (عليه السلام) إنما سأل بقوله: رب أرني حصول العلم بكيفية حصول الإحياء دون مشاهدة كيفية الإحياء، و أن الذي أجيب به في الآية لا يدل على أزيد من ذلك، قال: ما محصله: أنه ليس في الكلام ما يدل على أن الله سبحانه أمره بالإحياء، و لا أن إبراهيم (عليه السلام) فعل ما أمره به، فما كل أمر يقصد به الامتثال، فإن من الخبر ما يأتي بصورة الإنشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلا؟ فتقول: خذ كذا و كذا و أفعل به كذا و كذا يكن حبرا تريد أن هذه كيفيته، و لا تريد به أن تأمره أن يصنع الحبر بالفعل.
قال: و في القرآن شيء كثير مما ورد فيه الخبر في صورة الأمر، و الكلام هاهنا مثل لإحياء الموتى، و معناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك و آنسها بك حتى تأنس و تصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها فإن الطيور من أشد الحيوان استعدادا لذلك ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها و بعدها، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسماوات و الأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين.
قال: و الدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهن، فإن معناه أملهن أي أوجد ميلها إليك و أنسها بك، و يشهد به تعديته بإلى فإن صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الإمالة، و ما ذكره المفسرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطعهن أجزاء بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، و أما ما قيل: إن قوله: إليك متعلق بقوله: فخذ دون قوله: فصرهن و المعنى: خذ إليك أربعة من الطير فقطعهن فخلاف ظاهر الكلام.
و ثانيا: أن الظاهر: أن ضمائر فصرهن و منهن و ادعهن و يأتينك جميعا راجعة إلى الطير، و يلزم على قولهم: إن المراد تقطيعها و تفريق أجزائها، و وضع كل جزء منها على جبل ثم دعوتهن أن يفرق بين الضمائر فيعود الأولان إلى الطيور، و الثالث و الرابع إلى الأجزاء و هو خلاف الظاهر.
و أضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوها أخرى نتبعها بها.
و ثالثا: أن إراءة كيفية الخلقة إن كان بمعنى مشاهدة كيفية تجمع أجزائها و تغير صورها إلى الصورة الأولى الحية فهي مما لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الأجزاء و مزجه إياها و وضعه على جبل بعيد، جزءا منها فكيف يتصور على هذا مشاهدة ما يعرض ذرات الأجزاء من الحركات المختلفة و التغيرات المتنوعة، و إن كان المراد إراءة كيفية الإحياء بمعنى الإحاطة على كنه كلمة التكوين التي هي الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء و حقيقة نطقها بالأشياء فظاهر القرآن و هو ما عليه المسلمون أن هذا غير ممكن للبشر، فصفات الله منزهة عن الكيفية.
و رابعا: أن قوله: ثم اجعل، يدل على التراخي الذي هو المناسب لمعنى التأنيس و كذلك قوله: فصرهن بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح و التقطيع.
و خامسا: أنه لو كان كما يقولون لكان الأنسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين: العزيز الحكيم فإن العزيز هو الغالب الذي لا ينال، هذا ما ذكروه.
و أنت بالتأمل في ما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإن اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني و قوله: كيف تحيي و إجراء الأمر بيد إبراهيم على ما مر بيانها كل ذلك ينافي هذا المعنى، على أن الجزء في قوله تعالى: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.
و أما الوجوه التي ذكروها فالجواب عن الأول: أن معنى صرهن قطعهن، و تعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الإمالة كما في قوله تعالى: «الرفث إلى نسائكم»: البقرة - 187، حيث ضمن معنى الإفضاء.
و عن الثاني: أن جميع الضمائر الأربع راجعة إلى الطيور، و الوجه في رجوع ضمير ادعهن و يأتينك إليها مع أنها غير موجودة بأجزائها و صورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلا بمادتها في قوله تعالى: «ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين:» فصلت - 10، و قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن:» يس - 82، و حقيقة الأمر: أن الخطاب اللفظي فرع وجود المخاطب قبل الخطاب، و أما الخطاب التكويني فالأمر فيه بالعكس، و المخاطب فيه فرع الخطاب، فإن الخطاب فيه هو الإيجاد و من المعلوم أن الوجود فرع الإيجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشيء المتفرع على قوله كن و هو خطاب الأمر.
و عن الثالث: أنا نختار الشق الثاني و أن السؤال إنما هو عن كيفية فعل الله سبحانه و إحيائه لا عن كيفية قبول المادة و حياتها، و قوله: إن البشر لا يمكنه أن ينال كنه الإرادة الإلهية التي هي من صفاته كما يدل ظاهر القرآن و عليه المسلمون.
قلنا: إن الإرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق و الإحياء و نحوهما، و الذي لا سبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى: «و لا يحيطون به علما:» طه - 110.
فالإراده منتزعة من الفعل، و هو الإيجاد المتحد مع وجود الشيء، و هو كلمة كن في قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون، و قد ذكر الله في تالي الآية أن هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كل شيء إذ قال: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء الآية، و قد ذكر الله تعالى أنه أرى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين:» الأنعام - 75، و من الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.
و منشأ هذه الشبهة و نظائرها من هؤلاء الباحثين أنهم يظنون أن دعوة إبراهيم (عليه السلام) للطيور في إحيائها، و قول عيسى (عليه السلام) لميت عند إحيائه: قم بإذن الله و جريان الريح بأمر سليمان و غيرها مما يشتمل عليه الكتاب و السنة إنما هو لأثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدل عليه ألفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية و معانيها و قد خفي عليهم أن ذلك إنما هو عن اتصال باطني بقوة إلهية غير مغلوبة و قدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة.
و عن الرابع: أن التراخي المدلول عليه بقوله: ثم كما يناسب معنى التربية و التأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع و تفريق الأجزاء و وضعها على الجبال كما هو ظاهر.
و عن الخامس: أن الإشكال مقلوب عليهم فإن الذي ذكروه هو أن الله إنما بين كيفية الإحياء لإبراهيم بالبيان العلمي النظري دون الشهودي، فيرد عليهم أن المناسب حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزة و الحكمة، و قد عرفت مما قدمنا أن الأنسب على ما بيناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية.
و يظهر مما ذكرنا أيضا فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالسؤال في الآية إنما هو السؤال عن إشهاد كيفية الإحياء بمعنى كيفية قبول الأجزاء صورة الحياة.
قال: ما محصله: أن السؤال لم يكن في أمر ديني - و العياذ بالله - و لكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها، و كيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها فإبراهيم (عليه السلام) طلب علم لا يتوقف الإيمان على علمه، و يدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، و موضوعها السؤال عن الحال، و نظير هذا أن يقول القائل كيف يحكم زيد في الناس، فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، و لكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته، و لو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال: أ يحكم زيد في الناس، و إنما جاء التقرير أعني قوله، أ و لم تؤمن، بعده لأن تلك الصيغة و إن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع: أنه يحمل ثقلا من الأثقال و أنت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد أنك عاجز عن حمله، و الله سبحانه لما علم براءة إبراهيم (عليه السلام) عن الحوم حول هذا الحمى أراد أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى لكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه بحيث يفهمها كل من سمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، و معنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، و عدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجودة، و رؤية الكيفية لم يزد في إيمانه المطلوب منه شيئا، و إنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به.
ثم قال بعد كلام له طويل: إن الآية تدل على فضل إبراهيم (عليه السلام) حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، و أرى عزيرا ما أراه بعد ما أماته مائة عام.
و أنت بالتدبر في الآية و التأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره فإن السؤال إنما وقع عن كيفية إحيائه تعالى لا عن كيفية قبول الأجزاء الحياة ثانيا فقد قيل: كيف تحيي، بضم التاء لا بفتحها، على أن إجراء الأمر على يد إبراهيم (عليه السلام) يدل على ذلك و لو كان السؤال عن كيفية القبول لكفى في ذلك إراءة شيء من الموتى يحييه الله كما في قصة المار على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، و لم تكن حاجة إلى إجراء الإحياء على يد إبراهيم (عليه السلام)، و هذا هو الذي أشرنا إليه آنفا: أنهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقيهم المعارف الإلهية و مصدريتهم للأمور الخارقة بنفوسهم العادية فينتج ذلك مثلا: أن لا فرق بين تكون الحياة بيد إبراهيم و تكونه في الخارج بالنسبة إلى حال إبراهيم، و هذا أمر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكن هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، و كلما أمعنوا في البحث زادوا بعدا عن الحق.
أ لا ترى أنه فسر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكون و الأشكال المتصورة مع أن هذا التردد الفكري من اللغو الذي لا سبيل له إلى ساحة مثل إبراهيم (عليه السلام)، مع أن الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشيء فإن إبراهيم (عليه السلام) قال: كيف تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى و هو يريد موتى الإنسان أو الأعم منه و من غيره و الله سبحانه ما أراه إلا تكون الحياة في أربعة من الطير.
ثم ذكر فضل إبراهيم (عليه السلام) على عزير يريد به صاحب القصة في الآية السابقة بما ذكر فأخذ القصة في الآيتين من نوع واحد و هو السؤال عن الكيفية التي فسرها بما فسرها و الجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعا، مع أن الآيتين جميعا - على ما فيهما من غرر البيان و دقائق المعاني - أجنبيتان عن الكيفية بالمعنى الذي ذكره كل ذلك واضح بالرجوع إلى ما مر فيهما.
على أن المناسب لبيان الكيفية ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزة و الحكمة كما في قوله تعالى: «و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير:» فصلت - 39، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفية و قد ختمت بصفة القدرة المطلقة، و نظيره قوله تعالى: «أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض و لم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير:» الأحقاف - 33، ففيه أيضا بيان الكيفية بإراءة الأمثال ثم ختم الكلام بصفة القدرة.
قوله تعالى: قال: أ و لم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي، بلى كلمة يرد به النفي و لذلك ينقلب به النفي إثباتا كقوله تعالى: «أ لست بربكم قالوا بلى:» الأعراف - 172، و لو قالوا نعم لكان كفرا، و الطمأنينة و الاطمينان سكون النفس بعد انزعاجها و اضطرابها، و هو مأخوذ من قولهم: اطمأنت الأرض و أرض مطمئنة إذا كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها و الحجر إذا هبط إليها.
و قد قال تعالى: أ و لم تؤمن، و لم يقل: أ لم تؤمن للإشعار بأن للسؤال و الطلب محلا لكنه لا ينبغي أن يقارن عدم الإيمان بالإحياء: و لو قيل: أ لم تؤمن دل على أن المتكلم تلقى السؤال منبعثا عن عدم الإيمان، فكان عتابا و ردعا عن مثل هذا السؤال، و ذلك أن الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاما عن أن هذا السؤال هل يقارنه عدم الإيمان، لا استفهاما عن وجه السؤال حتى ينتج عتابا و ردعا.
و الإيمان مطلق في كلامه تعالى، و فيه دلالة على أن الإيمان بالله سبحانه لا يتحقق مع الشك في أمر الإحياء و البعث، و لا ينافي ذلك اختصاص المورد بالإحياء لأن المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ و لا تقييد إطلاقه.
و كذا قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام): ليطمئن قلبي، مطلق يدل على كون مطلوبه (عليه السلام) من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق و قطع منابت كل خطور قلبي و أعراقه، فإن الوهم في إدراكاتها الجزئية و أحكامها لما كانت معتكفة على باب الحس و كان جل أحكامها و تصديقاتها في المدركات التي تتلقاها من طريق الحواس فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدقه العقل، و إن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الأحكام الكلية العقلية الحقة من الأمور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإنها تستنكف عن قبولها و إن سلمت مقدماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاما مناقضة لها، ثم تثير الأحوال النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى و تتأيد بذلك في تأثيرها المخالف، و إن كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلا تضرها إلا أذى، كما أن من بات في دار مظلمة فيها جسد ميت فإنه يعلم: أن الميت جماد من غير شعور و إرادة فلا يضر شيئا، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة و تستدعي من المتخيلة أن تصور للنفس صورا هائلة موحشة من أمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس، و ربما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.
فقد ظهر: أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الإيمان و التصديق دائما، غير أنها تؤذي النفس، و تسلب السكون و القرار منها، و لا يزول وجود هذه الخواطر إلا بالحس أو المشاهدة، و لذلك قيل: إن للمعاينة أثرا لا يوجد مع العلم، و قد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتى إذا جاءهم و شاهدهم و عاين أمرهم غضب و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه.
و قد ظهر من هنا و مما مر سابقا أن إبراهيم (عليه السلام) ما كان يسأل المشاهدة بالحس الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل إنما كان يسأل مشاهدة فعل الله سبحانه و أمره في إحياء الموتى، و ليس ذلك بمحسوس و إن كان لا ينفك عن الأمر المحسوس الذي هو قبول الأجزاء المادية للحياة بالاجتماع و التصور بصورة الحي، فهو (عليه السلام) إنما كان يسأل حق اليقين.
قوله تعالى: قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا.
صرهن بضم الصاد على إحدى القراءتين من صار يصور إذا قطع أو أمال، أو بكسر الصاد على القراءة الأخرى من صار يصير بأحد المعنيين، و قرائن الكلام يدل على إرادة معنى القطع، و تعديته بإلى تدل على تضمين معنى الإمالة.
فالمعنى: أقطعهن مميلا إليك أو أملهن إليك قاطعا إياهن على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.
و كيف كان فقوله تعالى: خذ أربعة من الطير «إلخ»، جواب عن ما سأله إبراهيم (عليه السلام) بقوله: رب أرني كيف تحيي الموتى، و من المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال، فبلاغة الكلام و حكمة المتكلم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام و خاصة القرآن الذي هو خير كلام ألقاه خير متكلم إلى خير سامع واع، و ليست القصة على تلك البساطة التي تتراءى منها في بادي النظر، و لو كان كذلك لتم الجواب بإحياء ميت ما كيف كان، و لكان الزائد على ذلك لغوا مستغنى عنه و ليس كذلك، و لقد أخذ فيها قيود و خصوصيات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما أريد إحياؤه أن يكون طيرا، و أن يكون حيا، و أن يكون ذا عدد أربعة، و أن يقتل و يخلط و يمزج أجزاؤها، و أن يفرق الأجزاء المختلطة أبعاضا ثم يوضع كل بعض في مكان بعيد من الآخر كقلة هذا الجبل و ذاك الحبل، و أن يكون الإحياء بيد إبراهيم (عليه السلام) نفس السائل بدعوته إياهن، و أن يجتمع الجميع عنده.
فهذه كما ترى خصوصيات زائدة في القصة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود إفادته، و قد ذكروا لها وجوها من النكات لا تزيد الباحث إلا عجبا يعلم صحة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصلات التفاسير.
و كيف كان فهذه الخصوصيات لا بد أن تكون مرتبطة بالسؤال، و الذي يوجد في السؤال - و هو قوله: رب أرني كيف تحيي الموتى - أمران.
أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي و هو أن المسئول مشاهدة الإحياء من حيث إنه وصف لله سبحانه لا من حيث إنه وصف لأجزاء المادة الحاملة للحياة.
و ثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنه خصوصية زائدة.
أما الأول: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الأمر بيد إبراهيم نفسه حيث يقول: فخذ، فصرهن، ثم اجعل، بصيغة الأمر و يقول ثم ادعهن يأتينك، فإنه تعالى جعل إتيانهن سعيا و هو الحياة مرتبطا متفرعا على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الذي يفيض عنه حياة ما أريد إحياؤه، و لا إحياء إلا بأمر الله، فدعوة إبراهيم إياهن بأمر الله، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الأحياء، و عند ذلك شاهده إبراهيم و رأى كيفية فيضان الأمر بالحياة، و لو كانت دعوة إبراهيم إياهن غير متصلة بأمر الله الذي هو أن يقول لشيء أراده: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير المتصلة إلا بالتخيل كان هو أيضا كمثلنا إذ قلنا لشيء كن فلا يكون، فلا تأثير جزافي في الوجود.
و أما الثاني: فقوله كيف تحيي الموتى تدل على أن لكثرة الأموات و تعددها دخلا في السؤال، و ليس إلا أن الأجساد بموتها و تبدد أجزائها و تغير صورها و تحول أحوالها تفقد حالة التميز و الارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء و البوار، و تصير كالأحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج و لا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية و لا محاط في الواقع.
و هذا هو الذي أورده فرعون على موسى (عليه السلام) و أجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله: «قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى:» طه - 51.
و بالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير و لعل اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل و أقل زمانا فيشاهد حياتها و يرى اختلاف أشخاصها و صورها، و يعرفها معرفة تامة أولا، ثم يقتلها و يخلط أجزاءها خلطا دقيقا ثم يجعل ذلك أبعاضا، و كل بعض منها على جبل لتفقد التميز و التشخص، و تزول المعرفة، ثم يدعوهن يأتينه سعيا، فإنه يشاهد حينئذ أن التميز و التصور بصورة الحياة كل ذلك تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها، أي إن أجسادها تابعة لأنفسها لا بالعكس فإن البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظل إلى الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل و إلى أي حال تحول الشاخص أو أجزاؤه تبعه فيه الظل حتى إذا انعدم تبعه في الانعدام، و الله سبحانه إذا أوجد حيا من الأحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنما يتعلق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أولا ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علما فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل و لا مانع و بذلك يشعر قوله تعالى: ثم ادعهن يأتينك سعيا أي مسرعات مستعجلات.
و هذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى: «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون:» السجدة - 11، و قد مر بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس، و سيأتي تفصيل الكلام في محله إن شاء الله.
فقوله تعالى: فخذ أربعة من الطير إنما أمر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند إعادة الحياة إليها و لا ينكرها، و أ ما هي عليه من الاختلاف و التميز أولا و زوالهما ثانيا، و قوله: فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا أي اذبحهن و بدد أجزاءهن و اخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الأجزاء و هي غير متميزة، و هذا من الشواهد على أن القصة إنما وقعت بعد مهاجرة إبراهيم من أرض بابل إلى سورية فإن أرض بابل لا جبل بها، و قوله ثم ادعهن، أي ادع الطيور يا طاووس و يا فلان و يا فلان، و يمكن أن يستفاد ذلك مضافا إلى دلالة ضمير «هن» الراجعة إلى الطيور من قوله: ادعهن، فإن الدعوة لو كانت لأجزاء الطيور دون أنفسها كان الأنسب أن يقال: ثم نادهن فإنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه (عليه السلام) و اللفظ المستعمل في البعيد خاصة هو النداء دون الدعاء، و قوله: يأتينك سعيا، أي يتجسدن و اتصفن بالإتيان و الإسراع إليك.
قوله تعالى: و اعلم أن الله عزيز حكيم، أي عزيز لا يفقد شيئا بزواله عنه، حكيم لا يفعل شيئا إلا من طريقه اللائق به، فيوجد الأجساد بإحضار الأرواح و إيجادها دون العكس.
و في قوله تعالى: و اعلم أن «إلخ»، دون أن يقال إن الله «إلخ»، دلالة على أن الخطور القلبي الذي كان إبراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعا إلى حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.
بحث روائي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه الآية:، أخرج الطيالسي و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الذي حاج إبراهيم في ربه هو نمرود بن كنعان.
و في تفسير البرهان،: أبو علي الطبرسي قال: اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار، عن مقاتل، و قيل بعد إلقائه في النار و جعلها عليه بردا و سلاما، عن الصادق (عليه السلام).
أقول: الآية و إن لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها بعد الإلقاء في النار، فإن قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته أباه و قومه و كسره الأصنام تعطي أن أول ما لاقى إبراهيم (عليه السلام) نمرود و كان حين رفع أمره إليه في قضية كسر الأصنام مجرما عندهم، فحكم عليه بالإحراق، و كان القضاء عليه في جرمه شاغلا عن تكليمه في أمر ربه: أ هو الله أو نمرود؟ و لو حاجه نمرود حينئذ لحاجه في أمر الله و أمر الأصنام دون أمر الله و أمر نفسه!.
و في عدة من الروايات التي روتها العامة و الخاصة في قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها الآية أن صاحب القصة أرميا النبي، و في عدة منها: أنها عزير، إلا أنها آحاد غير واجبة القبول، و في أسانيدها بعض الضعف، و لا شاهد لها من ظاهر الآيات، و القصة غير مذكورة في التوراة، و التي في الروايات من القصة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها.
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية: في حديث قال (عليه السلام): و هذه آية متشابهة، و معناها أنه سأل عن الكيفية و الكيفية من فعل الله عز و جل، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، و لا عرض في توحيده نقص، الحديث.
أقول: و قد اتضح معنى الحديث مما مر.
و في تفسير العياشي، عن علي بن أسباط: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) سئل عن قول الله: قال بلى و لكن ليطمئن قلبي أ كان في قلبه شك قال لا و لكن أراد من الله الزيادة، الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن الصادق و عن العبد الصالح (عليه السلام) و قد مر بيانه.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام)، قال: إن إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر، ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها، بعضا فتعجب إبراهيم فقال: يا رب أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال الله: أ و لم تؤمن؟ قال بلى - و لكن ليطمئن قلبي قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك - ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن - يأتينك سعيا و اعلم أن الله عزيز حكيم، فأخذ إبراهيم الطاووس و الديك و الحمام و الغراب، فقال الله عز و جل: فصرهن إليك أي قطعهن ثم اخلط لحمهن، و فرقهن على عشرة جبال، ثم دعاهن فقال: أحيي بإذن الله فكانت تجتمع و تتألف لحم كل واحد و عظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم، فعند ذلك قال إبراهيم إن الله عزيز حكيم.
أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام)، و روي من طرق أهل السنة عن ابن عباس.
قوله: إن إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا رب أرني إلخ، بيان للشبهة التي دعته إلى السؤال و هي تفرق أجزاء الجسد بعد الموت تفرقا يؤدي إلى تغيرها و انتقالها إلى أمكنة مختلفة و حالات متنوعة لا يبقى معها من الأصل شيء.
فإن قلت: ظاهر الرواية: أن الشبهة كانت هي شبهة الآكل و المأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، و أكل بعضها بعضا، ثم فرعت على ذلك تعجب إبراهيم و سؤاله.
قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرق أجزاء الجسد و فناء أصلها من الصور و الأعراض و بالجملة عدم بقائها حتى تتميز و تركبها الحياة - و ثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزءا من بدن بعض آخر فيؤدي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامين معا لأن المفروض أن بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكل واحد منهما أعيد تاما بقي الآخر ناقصا لا يقبل الإعادة، و هذه هي شبهة الآكل و المأكول.
و ما أجاب الله سبحانه به - و هو تبعية البدن للروح - و إن كان وافيا لدفع الشبهتين جميعا، إلا أن الذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل و المأكول، و هو أكل بعض الحيوان بعضا، بل إنما تشتمل على تفرق الأجزاء و اختلاطها و تغير صورها و حالاتها، و هذه مادة الشبهة الأولى، فالآية إنما تتعرض لدفعها و إن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما أجيب به في الآية كما مر، و ما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.
قوله (عليه السلام) فأخذ إبراهيم الطاووس و الديك و الحمام و الغراب، و في بعض الروايات أن الطيور كانت هي النسر و البط و الطاووس و الديك، رواه الصدوق في العيون، عن الرضا (عليه السلام) و نقل عن مجاهد و ابن جريح و عطاء و ابن زيد، و في بعضها أنها الهدهد و الصرد و الطاووس و الغراب، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق (عليه السلام) و في بعضها: أنها النعامة و الطاووس و الوزة و الديك»: رواه العياشي عن معروف بن خربوذ عن الباقر (عليه السلام) و نقل عن ابن عباس، و روي من طرق أهل السنة عن ابن عباس أيضا: أنها الغرنوق و الطاووس و الديك و الحمامة، و الذي تشترك فيه جميع الروايات و الأقوال: الطاووس.
قوله (عليه السلام): و فرقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت و قيل إنها كانت أربعة، و قيل سبعة.
و في العيون، مسندا عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أ و لم تؤمن قال بلى - و لكن ليطمئن قلبي، قال الرضا: إن الله تبارك و تعالى كان أوحى إلى إبراهيم: إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنه ذلك الخليل فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أ و لم تؤمن؟ قال بلى و لكن ليطمئن قلبي بالخلة، الحديث.
أقول: و قد تقدم في أخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم و في هذه الرواية التي رواها عن الرضا (عليه السلام) فارجع.
و اعلم: أن الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أن مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء، و اللفظ يساعد عليه فإن الخلة هي الحاجة، و الخليل إنما يسمى خليلا لأن الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجه إلى صديقه، و لا معنى لرفعها مع عدم الكفاية و القضاء.