سُورَةُ البَقَرَةِ
٢٦١ - ٢٧٤
بيان
سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان أمر الإنفاق، و رجوع مضامينها و أغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنها نزلت دفعه واحدة، و هي تحث المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أولا مثلا لزيادته و نموه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، و ربما زاد على ذلك بإذن الله، و ثانيا مثلا لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال و تنهى عن الرياء في الإنفاق و تضرب مثلا للإنفاق رياء لا لوجه الله، و أنه لا ينمو نماء و لا يثمر أثرا، و تنهى عن الإنفاق بالمن و الأذى إذ يبطلان أثره و يحبطان عظيم أجره، ثم تأمر بأن يكون الإنفاق من طيب المال لا من خبيثه بخلا و شحا، ثم تعين المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة و هو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثم تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.
و بالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، و تبين أولا وجهه و غرضه و هو أن يكون لله لا للناس، و ثانيا صورة عمله و كيفيته و هو أن لا يتعقبه المن و الأذى، و ثالثا وصف مال الإنفاق و هو أن يكون طيبا لا خبيثا، و رابعا نعت مورد الإنفاق و هو أن يكون فقيرا أحصر في سبيل الله، و خامسا ما له من عظيم الأجر عاجلا و آجلا.
كلام في الإنفاق
الإنفاق من أعظم ما يهتم بأمره الإسلام في أحد ركنيه و هو حقوق الناس و قد توسل إليه بأنحاء التوسل إيجابا و ندبا من طريق الزكاة و الخمس و الكفارات المالية و أقسام الفدية و الإنفاقات الواجبة و الصدقات المندوبة، و من طريق الوقف و السكنى و العمرى و الوصايا و الهبة و غير ذلك.
و إنما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أفق أهل النعمة و الثروة، و من جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال و الزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف و لا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف و التبذير و نحو ذلك.
و كان الغرض من ذلك كله إيجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيي ناموس الوحدة و المعاضدة، و تميت الإرادات المتضادة و أضغان القلوب و منابت الأحقاد، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشئونها، و ترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الإنسان في العاجل و الآجل، و يعيش به الإنسان في معارف حقة، و أخلاق فاضلة، و عيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، و يدفع بها عن نفسه المكاره و النوائب و نواقص المادة.
و لا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها و صفائها، و لا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، و لا يكمل ذلك إلا بالجهات المالية و الثروة و القنية، و الطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد مما اقتنوه بكد اليمين و عرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، و الأرض لله، و المال ماله.
و هذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها و استقامتها في القرار و النماء و النتيجة في برهة من الزمان و هي زمان حياته (عليه السلام) و نفوذ أمره.
: و هي التي يتأسف عليها و يشكو انحراف مجراها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ يقول: و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، و الشر فيه إلا إقبالا، و الشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أوان قويت عدته و عمت مكيدته و أمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ نهج البلاغة،.
و قد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - و هي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق و منع العالية عن الإتراف و التظاهر بالجمال - حيث إن الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، و الإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية.
و استيفاء الهوسات النفسانية، و أعدوا له ما استطاعوا من قوة، فأوجب ذلك عكوف الثروة و صفوة لذائذ الحياة على أبواب أولي القوة و الثروة، و لم يبق بأيدي النمط الأسفل إلا الحرمان، و لم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس و سلب حق الحياة من الأكثرين و هم سواد الناس، و أثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقى و لا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، و اشتباك النزاع و النزال بين الفريقين و التفاني بين الغني و الفقير و المنعم و المحروم و الواجد و الفاقد، و نشبت الحرب العالمية الكبرى، و ظهرت الشيوعية، و هجرت الحقيقة و الفضيلة، و ارتحلت السكن و الطمأنينة و طيب الحياة من بين النوع و، هذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنساني، و ما يهدد النوع بما يستقبله أعظم و أفظع.
و من أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق و انفتاح أبواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق، و يذكر أن في رواجه فساد الدنيا و هو من ملاحم القرآن الكريم، و قد كان جنينا أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيام.
و إن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه و اتقوه و أقيموا الصلوة و لا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون و إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى أن قال: فأت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله و أولئك هم المفلحون و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون - إلى أن قال -: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون الآيات»: الروم - 30 - 43، و للآيات نظائر في سور هود و يونس و الإسراء و الأنبياء و غيرها تنبىء عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إن شاء الله.
و بالجملة هذا هو السبب فيما يتراءى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحث الشديد و التأكيد البالغ في أمره.
قوله تعالى: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة «إلخ»، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله، فإن الكلمة في الآية مطلقة، و إن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، و كانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإن ذلك لا يوجب التخصيص و هو ظاهر.
و قد ذكروا أن قوله تعالى: كمثل حبة أنبتت «إلخ»، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت «إلخ»، فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق و هو ظاهر.
و هذا الكلام و إن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعة في القرآن كقوله تعالى: «مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء:» البقرة - 171، فإنه مثل من يدعو الكفار لا مثل الكفار، و قوله تعالى: إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه» الآية: يونس - 24، و قوله تعالى: «مثل نوره كمشكوة:» النور - 35، و قوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية، و قوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله و تثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.
و هذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.
توضيحه: أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لأخرى في جهاتها يؤتى بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم: لا ناقة لي و لا جمل، و قولهم: في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها و تطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، و لذا قيل: إن الأمثال لا تتغير، و كقولنا: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، و هي قصة مفروضة خيالية.
و المعنى الذي يشتمل عليه المثل و يكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى: «و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة:» الآية: إبراهيم - 26، و قوله تعالى: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا:» الجمعة - 5، و ربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل و هو الذي نسميه مادة التمثيل، و إنما جيء بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الأخير مثال الإنفاق و الحبة فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمائة حبة و إنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة.
و ما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه، و ما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام القصة لأن الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمرا و وجدانه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه و ليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.
قوله تعالى: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، السنبل معروف و هو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لأنه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الأغلفة.
و من أسخف الإشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج و هو اشتمال السنبلة على مائة حبة، و فيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونه في الخارج فالأمثال التخيلية أكثر من أن تعد و تحصى، على أن اشتمال السنبلة على مائة حبة و إنبات الحبة الواحدة سبعماة حبة ليس بعزيز الوجود.
قوله تعالى: و الله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم، أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده و لا محدد لفضله كما قال تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة:» البقرة - 245، فأطلق الكثرة و لم يقيدها بعدد معين.
و قيل: إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمائة ضعف غاية ما تدل عليه الآية، و فيه أن الجملة على هذا يقع موقع التعليل، و حق الكلام فيه حينئذ أن يصدر بأن كقوله تعالى: «الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس:» المؤمن - 61، و أمثال ذلك.
و لم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة و هو كذلك و الاعتبار يساعده، فالمنفق بشيء من ماله و إن كان يخطر بباله ابتداء أن المال قد فات عنه و لم يخلف بدلا، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الإنساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء و الأشكال لكنها جميعا متحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر و الفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة و الاستقامة، و عي في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، و خسرانها في أغراضها فالعين و اليد و إن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم و الفعل ظاهرا، لكن الخلقة إنما جهز الإنسان بالبصر ليميز به الأشياء ضوءا و لونا و قربا و بعدا فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، و تدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أولا كدا و تعبا لا يتحمل عادة، و ينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، و أما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الأعضاء الآخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، و عاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المئات و الألوف بما يورث من إصلاح حال الغير، و دفع الرذائل التي يمكنها الفقر و الحاجة في نفسه، و إيجاد المحبة في قلبه، و حسن الذكر في لسانه، و النشاط في عمله، و المجتمع يربط جميع ذلك و يرجعه إلى المنفق لا محالة، و لا سيما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم و التربية و نحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.
و إذا كان الإنفاق في سبيل الله و ابتغاء مرضاة الله كان النماء و الزيادة من لوازمه من غير تخلف، فإن الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته و يعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، و هذا نوع استخدام للفقير و استثمار منه لنفع نفسه، ربما أورث في نفس الفقير أثرا سيئا، و ربما تراكمت الآثار و ظهرت فكانت بلوى، لكن الإنفاق الذي لا يراد به إلا وجه الله و لا يبتغي فيه إلا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلا الجميل و لا يتعقبه إلا الخير.
قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى «إلخ»، الاتباع اللحوق و الإلحاق، قال تعالى: «فأتبعوهم مشرقين:» الشعراء - 60، أي لحقوهم، و قال تعالى: «فأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة:» القصص - 42، أي ألحقناهم.
و المن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا و كذا و نحو ذلك، و الأصل في معناه على ما قيل القطع، و منه قوله تعالى: «لهم أجر غير ممنون»: فصلت - 8، أي غير مقطوع، و الأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، و الخوف توقع الضرر، و الحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.
قوله تعالى: قول معروف و مغفرة خير من صدقة «إلخ» المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، و يختلف باختلاف الموارد، و الأصل في معنى المغفرة هو الستر، و الغنى مقابل الحاجة و الفقر، و الحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.
و ترجيح القول المعروف و المغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسئول عنه، و الستر و الصفح إذا شفع سؤاله بما يسوؤه و هما خير من صدقة يتبعها أذى، فإن أذى المنفق للمنفق عليه يدل على عظم إنفاقه و المال الذي أنفقه في عينه، و تأثره عما يسوؤه من السؤال، و هما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإن المؤمن متخلق بأخلاق الله، و الله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم و جاد به، حليم لا يتعجل في المؤاخذة على السيئة، و لا يغضب عند كل جهالة، و هذا معنى ختم الآية بقوله: و الله غني حليم.
قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم «إلخ»، تدل الآية على حبط الصدقة بلحوق المن و الأذى، و ربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة لما يسبقها من الطاعات، و لا دلالة في الآية على غير المن و الأذى بالنسبة إلى الصدقة و قد تقدم إشباع الكلام في الحبط.
قوله تعالى: كالذي ينفق ماله رئاء الناس و لا يؤمن بالله و اليوم الآخر، لما كان الخطاب للمؤمنين، و المرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن و الأذى، بل إنما شبه المتصدق الذي يتبع صدقته بالمن و الأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أن عمل المرائي باطل من رأس و عمل المان و المؤذي وقع أولا صحيحا ثم عرضه البطلان.
و اتحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، و قوله: و لا يؤمن من دون أن يقال: و لم يؤمن يدل على أن المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله و اليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه، و يعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، و بيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، و أحب و اختار جزيل الثواب، و لم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأسا.
و يظهر من الآية أن الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله و اليوم الآخر فيه.
قوله تعالى: فمثله كمثل صفوان عليه تراب إلى آخر الآية الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس و المثل له، و الصفوان و الصفا الحجر الأملس و كذا الصلد، و الوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.
و الضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الذي ينفق رئاء لأنه في معنى الجمع، و الجملة تبين وجه الشبه و هو الجامع بين المشبه و المشبه به، و قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عام و هو أن المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، و الله لا يهدي القوم الكافرين، و لذلك أفاد معنى التعليل.
و خلاصة معنى المثل: أن حال المرائي في إنفاقه رئاء و في ترتب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر، فإن المطر و خاصة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض و اخضرارها و تزينها بزينة النبات، إلا أن التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل و يبقى الصلد الذي لا يجذب الماء، و لا يتربى فيه بذر لنبات، فالوابل و إن كان من أظهر أسباب الحياة و النمو و كذا التراب لكن كون المحل صلدا يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص و القصور من جانبهما فهذا حال الصلد.
و هذا حال المرائي فإنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب و إن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتب الثواب، فإنه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة و الكرامة.
و قد ظهر من الآية: أن قبول العمل يحتاج إلى نية الإخلاص و قصد وجه الله، و قد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال: إنما الأعمال بالنيات.
قول تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله و تثبيتا من أنفسهم، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، و يعود إلى إرادة وجه الله، فإن وجه الشيء هو ما يواجهك و يستقبلك به، و وجهه تعالى بالنسبة إلى عبده الذي أمره بشيء و أراده منه هو رضاؤه عن فعله و امتثاله، فإن الأمر يستقبل المأمور أولا بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضاة الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عز و جل.
و أما قوله: و تثبيتا من أنفسهم فقد قيل: إن المراد التصديق و اليقين.
و قيل: هو التثبت أي يتثبتون أين يضعون أموالهم، و قيل: هو التثبت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، و إن كان خالطه شيء من الرياء أمسك، و قيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، و قيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله.
و أنت خبير بأن شيئا من الأقوال لا ينطبق على الآية إلا بتكلف.
و الذي ينبغي أن يقال - و الله العالم - في المقام: هو أن الله سبحانه لما أطلق القول أولا في مدح الإنفاق في سبيل الله، و أن له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، و لا يترتب عليهما الثواب، و هما الإنفاق رياء الموجب لعدم صحة العمل من رأس و الإنفاق الذي يتبعه من أو أذى فإنه يبطل بهما و إن انعقد أولا صحيحا، و ليس يعرض البطلان.
لهذين النوعين إلا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النية أعني ابتغاء المرضاة ثانيا بعد ما كانت عليها أولا، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين و أهل المن و الأذى، و هم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ثم يقرون أنفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل و يفسده.
و من هنا يظهر أن المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء و نحوه مما يجعل النية غير خالصة لوجه الله، و بقوله تثبيتا من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النية الخالصة، و هو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس.
فقوله تثبيتا تميز و كلمة من نشوية و قوله أنفسهم في معنى الفاعل، و ما في معنى المفعول مقدر.
و التقدير تثبيتا من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادته.
قوله تعالى: كمثل جنة بربوة أصابها وابل إلى آخر الآية، الأصل في مادة ربا الزيادة، و الربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيدة التي تزيد و تعلو في نموها، و الأكل بضمتين ما يؤكل من الشيء و الواحدة أكلة.
و الطل أضعف المطر القليل الأثر.
و الغرض من المثل أن الإنفاق الذي أريد به وجه الله لا يتخلف عن أثرها الحسن البتة، فإن العناية الإلهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه و إن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص، و اختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أن الجنة التي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي أكلها إيتاء جيدا البتة و إن كان إيتاؤها مختلفا في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل و طل.
و لوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله: و الله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، و لا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك و ثواب ذاك لهذا.
قوله تعالى: أ يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل و أعناب «إلخ»، الود هو الحب و فيه معنى التمني، و الجنة: الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك لأنها تجن الأرض و تسترها و تقيها من ضوء الشمس و نحوه، و لذلك صح أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، و لو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلا لم يصح ذلك لإفادته خلاف المقصود، و لذلك قال تعالى في مثل الربوة و هي الأرض المعمورة: «ربوة ذات قرار و معين:» المؤمنون - 50، و كرر في كلامه قوله: جنات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين و هو الماء فيها لا جاريا تحتها.
و من في قوله: من نخيل و أعناب للتبيين و يفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإن الجنة و البستان و ما هو من هذا القبيل إنما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنة العنب أو جنة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم و هي لا تخلو مع ذلك من شجر شتى، و لذلك قال تعالى ثانيا: له فيها من كل الثمرات.
و الكبر كبر السن و هو الشيخوخة، و الذرية الأولاد، و الضعفاء جمع الضعيف، و قد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر و وجود الذرية الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعية إلى الجنة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب التي يتوصل إليها في حفظ سعادة الحياة و تأمين المعيشة، فإن صاحب الجنة لو فرض شابا قويا لأمكنه أن يستريح إلى قوة يمينه لو أصيبت جنته بمصيبة، و لو فرض شيخا هرما من غير ذرية ضعفاء لم يسوء حاله تلك المساءة لأنه لا يرى لنفسه إلا أياما قلائل لا يبطىء عليه زوالها و انقضاؤها، و لو فرض ذا كبر و له أولاد أقوياء يقدرون على العمل و اكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، و أن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر و الذرية الضعفاء، و احترقت الجنة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب و القوة أو الأيام الخالية حتى يهيىء لنفسه نظير ما كان قد هيأها، و لا لذريته قوة على ذلك، و لا لهم رجاء أن ترجع الجنة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة و الأثمار.
و الإعصار الغبار الذي يلتف على نفسه بين السماء و الأرض كما يلتف الثوب على نفسه عند العصر.
و هذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم ثم يتبعونه منا و أذى فيحبط عملهم و لا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحته و استقامته، و انطباق المثل على الممثل ظاهر، و رجا منهم التفكر لأن أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنما تصدر من الناس و معهم حالات نفسانية كحب المال و الجاه و الكبر و العجب و الشح، لا تدع للإنسان مجال التثبت و التفكر و تميز النافع من الضار، و لو تفكروا لتبصروا.
قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم إلخ، التيمم هو القصد و التعمد، و الخبيث ضد الطيب، و قوله: منه، متعلق بالخبيث، و قوله: تنفقون حال من فاعل لا تيمموا، و قوله: و لستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، و عامله الفعل، و قوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، و اللام مقدر على ما قيل و التقدير إلا لإغماضكم فيه، أو المقدر باء المصاحبة و التقدير إلا بمصاحبة الإغماض.
و معنى الآية ظاهر، و إنما بين تعالى كيفية مال الإنفاق، و أنه ينبغي أن يكون من طيب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إلا بإغماض، فإنه لا يتصف بوصف الجود و السخاء، بل يتصور بصورة التخلص، فلا يفيد حبا للصنيعة و المعروف و لا كمالا للنفس، و لذلك ختمها بقوله: و اعلموا أن الله غني حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه و حمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال، أو أنه غني محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله.
قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء إقامة للحجة على أن اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإنه خير لهم، ففي النهي مصلحة أمرهم كما أن في المنهي عنه مفسدة لهم، و ليس إمساكهم عن إنفاق طيب المال و بذله إلا لما يرونه مؤثرا في قوام المال و الثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، و هذا من تسويل الشيطان يخوف أولياءه من الفقر، مع أن البذل و ذهاب المال و الإنفاق في سبيل الله و ابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض و الربح كما مر، مع أن الذي يغني و يقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى: «و أنه هو أغنى و أقنى:» النجم - 48.
و بالجملة لما كان إمساكهم عن بذل طيب المال خوفا من الفقر خطأ نبه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنه وضع السبب موضع المسبب، أعني أنه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدل على أنه خوف مضر لهم فإن الشيطان لا يأمر إلا بالباطل و الضلال إما ابتداء و من غير واسطة، و إما بالآخرة و بواسطة ما يظهر منه أنه حق.
و لما كان من الممكن أن يتوهم أن هذا الخوف حق و إن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك باتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: و يأمركم بالفحشاء أولا، فإن هذا الإمساك و التثاقل منهم يهيىء في نفوسهم ملكة الإمساك و سجية البخل، فيؤدي إلى رد أوامر الله المتعلقة بأموالهم و هو الكفر بالله العظيم، و يؤدي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار و الفقر و المسكنة التي فيه تلف النفوس و انهتاك الأعراض و كل جناية و فحشاء، قال تعالى: «و منهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولوا و هم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه و بما كانوا يكذبون إلى أن قال: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات و الذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم و لهم عذاب أليم:» التوبة - 79.
ثم بإتباعه بقوله: و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا و الله واسع عليم ثانيا، فإن الله قد بين للمؤمنين: أن هناك حقا و ضلالا لا ثالث لهما، و أن الحق و هو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، و أن الضلال من الشيطان، قال تعالى: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال»: يونس - 32، و قال تعالى: «قل الله يهدي للحق:» يونس - 35، و قال تعالى في الشيطان: «إنه عدو مضل مبين:» القصص - 15، و الآيات جميعا مكية، و بالجملة نبه تعالى بقوله: و الله يعدكم، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإن مغفرة الله و الزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة إنما هما في البذل من طيبات المال.
فقوله تعالى: و الله يعدكم «إلخ»، نظير قوله: الشيطان يعدكم «إلخ»، من قبيل وضع السبب موضع المسبب، و فيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم و وعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين و يختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.
فحاصل حجة الآية: أن اختياركم الخبيث على الطيب إنما هو لخوف الفقر، و الجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أما خوف الفقر فهو إلقاء، شيطاني، و لا يريد الشيطان بكم إلا الضلال و الفحشاء فلا يجوز أن تتبعوه، و أما ما يستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة و المغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، و هو استتباع بالحق لأن الذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة و الزيادة هو الله سبحانه و وعده حق، و هو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة و الزيادة و عليم لا يجهل شيئا و لا حالا من شيء فوعده وعد عن علم.
قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء، الإيتاء هو الإعطاء، و الحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام و الإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة و لا فتور، و غلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان و الكذب البتة.
و الجملة تدل على أن البيان الذي بين الله به حال الإنفاق بجمع علله و أسبابه و ما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقة الإلهية في المبدإ و المعاد، و المعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية.
قوله تعالى: و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، المعنى ظاهر، و قد أبهم فاعل الإيتاء مع أن الجملة السابقة عليه تدل على أنه الله تبارك و تعالى ليدل الكلام على أن الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبس بها يتضمن الخير الكثير، لا من جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإن مجرد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون «و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إلى آخر الآيات:» القصص - 76، و إنما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقا، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن و نفاسة الأمر لأن الأمر مختوم بعناية الله و توفيقه، و أمر السعادة مراعى بالعاقبة و الخاتمة.
قوله تعالى: و ما يذكر إلا أولوا الألباب، اللب هو العقل لأنه في الإنسان بمنزلة اللب من القشر، و على هذا المعنى استعمل في القرآن، و كان لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة و لذلك لم يستعمل في القرآن و إنما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.
و التذكر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدماتها، أو من الشيء إلى نتائجها، و الآية تدل على أن اقتناص الحكمة يتوقف على التذكر، و أن التذكر يتوقف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له.
و قد مر بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.
قوله تعالى: و ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعه و يؤاخذ من ظلم، ففيه إيماء إلى التهديد، و يؤكده قوله تعالى: و ما للظالمين من أنصار.
و في هذه الجملة أعني قوله: و ما للظالمين من أنصار، دلالة أولا: على أن المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء و المساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، و حبس حقوقهم المالية، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإن في مطلق المعصية أنصارا و مكفرات و شفعاء كالتوبة، و الاجتناب عن الكبائر، و شفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى: «لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إلى أن قال: و أنيبوا إلى ربكم:» الزمر - 54، و قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم:» النساء - 31، و قال تعالى: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى:» الأنبياء - 28، و من هنا يظهر: وجه إتيان الأنصار بصيغة الجمع فإن في مورد مطلق الظلم أنصارا.
و ثانيا: أن هذا الظلم و هو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير و لو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، و أنه لا يقبل التوبة، و يتأيد بذلك ما وردت به الروايات: أن التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلا برد الحق إلى مستحقه، و أنه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى: «إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين و لم نك نطعم المسكين إلى أن قال: فما تنفعهم شفاعة الشافعين:» المدثر - 48.
و ثالثا: أن هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلا لمن ارتضى الله دينه كما مر بيانه في بحث الشفاعة، و من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة و لم يقل ابتغاء وجه الله.
و رابعا: أن الامتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم و احتياجهم من الكبائر الموبقة، و قد عد تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركا بالله و كفرا بالآخرة، قال تعالى: «ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة و هم بالآخرة هم كافرون:» فصلت - 7، و السورة مكية و لم تكن شرعت الزكاة المعروفة عند نزولها.
قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي «إلخ»، الإبداء هو الإظهار، و الصدقات جمع صدقة، و هي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعم من الواجب و المندوب و ربما يقال: إن الأصل في معناها الإنفاق المندوب.
و قد مدح الله سبحانه كلا من شقي الترديد، لكون كل واحد من الشقين ذا آثار صالحة، فأما إظهار الصدقة فإن فيه دعوة عملية إلى المعروف، و تشويقا للناس إلى البذل و الإنفاق، و تطييبا لنفوس الفقراء و المساكين حيث يشاهدون أن في المجتمع رجالا رحماء بحالهم، و أموالا موضوعة لرفع حوائجهم، مدخرة ليوم بؤسهم فيؤدي إلى زوال اليأس و القنوط عن نفوسهم، و حصول النشاط لهم في أعمالهم، و اعتقاد وحدة العمل و الكسب بينهم و بين الأغنياء المثرين، و في ذلك كل الخير، و أما إخفاؤها فإنه حينئذ يكون أبعد من الرياء و المن و الأذى، و فيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي و المذلة، و صون لماء وجوههم عن الابتذال، و كلاءة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجا، و صدقة السر أخلص طهارة.
و لما كان بناء الدين على الإخلاص و كان العمل كلما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجح سبحانه جانب صدقة السر فقال: و إن تخفوها و تعطوها الفقراء فهو خير لكم فإن كلمة خير أفعل التفضيل، و الله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطىء في تمييز الخير من غيره، و هو قوله تعالى: و الله بما تعملون خبير.
قوله تعالى: ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان ما كان يشاهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإخلاص من بعضهم و المن و الأذى و التثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجدا و حزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الإيمان الموجود فيهم و الهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان و إلى درجاته، و ليس يستند إلى النبي لا وجوده و لا بقاؤه حتى يكون عليه حفظه، و يشنق من زواله أو ضعفه، أو يسوؤه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد و الإيعاد و الخشونة.
و الشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى:، هداهم، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس.
على أن هذا المعنى أعني نفي استناد الهداية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي و تطييب قلبه.
فالجملة أعني قوله: ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين و الإقبال عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه الآيات:» القيامة - 17.
فلما تم الاعتراض عاد إلى الأصل في الكلام من خطاب المؤمنين.
قوله تعالى: و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله «إلى آخر» الآية رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير و الإنذار و التحنن و التغيظ معا، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: و لكن الله يهدي من يشاء كما لا يخفى.
فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع، و إنما يعود نفعه إلى المدعوين، و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم لكن لا مطلقا بل في حال لا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فقوله: و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله حال، من ضمير الخطاب و عامله متعلق الظرف أعني قوله: فلأنفسكم.
و لما أمكن أن يتوهم أن هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج، و ليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله: و ما تنفقوا من خير يوف إليكم و أنتم لا تظلمون، فبين أن نفع هذا الإنفاق المندوب و هو ما يترتب عليه من مثوبة الدنيا و الآخرة ليس أمرا وهميا، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص.
و إبهام الفاعل في قوله: يوف إليكم، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي، ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح و انتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير.
قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله إلى آخر الآية، الحصر هو المنع و الحبس، و الأصل في معناه التضييق، قال الراغب في المفردات،: و الحصر و الإحصار المنع من طريق البيت، فالإحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدو، و المنع الباطن كالمرض، و الحصر لا يقال، إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى: فإن أحصرتم فمحمول على الأمرين و كذلك قوله: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، و قوله عز و جل: أو جاءوكم حصرت صدورهم، أي ضاقت بالبخل و الجبن، انتهى.
و التعفف التلبس بالعفة، و السيماء العلامة، و الإلحاف هو الإلحاح في السؤال.
و في الآية بيان مصرف الصدقات، و هو أفضل المصرف، و هم الفقراء الذين منعوا في سبيل الله و حبسوا فيه بتأدية عوامل و أسباب إلى ذلك: إما عدو أخذ ما لهم من الستر و اللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم و غير ذلك.
و في قوله تعالى يحسبهم الجاهل أي الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف دلالة على أنهم غير متظاهرين بالفقر إلا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر و المسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما.
و من هنا يظهر: أن المراد بقوله: لا يسألون الناس إلحافا أنهم لا يسألون الناس أصلا حتى ينجر إلى الإلحاف و الإصرار في السؤال، فإن السؤال أول مرة يجوز للنفس الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها أن لا تصبر و تهم بالسؤال في كل موقف، و الإلحاف على كل أحد، كذا قيل، و لا يبعد أن يكون المراد نفي الإلحاف لا أصل السؤال، و يكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإن مسمى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجبا، و الزائد عليه و هو الإلحاف هو المذموم.
و في قوله تعالى: تعرفهم بسيماهم دون أن يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم و حفظ لسترهم الذي تستروا به تعففا من الانهتاك فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا يخلو من هوان أمرهم و ظهور ذلهم.
و أما معرفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحالهم بتوسمه من سيماهم، و هو نبيهم المبعوث إليهم الرءوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم، و لا ذهاب كرامتهم، و هذا - و الله أعلم - هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد.
قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار إلى آخر الآية، السر و العلانية متقابلان و هما حالان من ينفقون و التقدير مسرين و معلنين، و استيفاء الأزمة و الأحوال في الإنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب، و إمعانهم في ابتغاء مرضاة الله، و إرادة وجهه، و لذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعدا حسنا بلسان الرأفة و التلطف فقال: لهم أجرهم عند ربهم إلخ.
بحث روائي
في الدر المنثور، في قوله تعالى: و الله يضاعف لمن يشاء الآية:، أخرج ابن ماجة عن الحسن بن علي بن أبي طالب و أبي الدرداء و أبي هريرة و أبي أمامة الباهلي و عبد الله بن عمر و جابر بن عبد الله و عمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله أنه قال: ح، و أخرج ابن ماجة و ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أرسل بنفقة في سبيل الله و أقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، و من غزا بنفسه في سبيل الله و أنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية: و الله يضاعف لمن يشاء.
و في تفسير العياشي، و رواه البرقي أيضا عن الصادق (عليه السلام): إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف، و ذلك قول الله: و الله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله.
و في تفسير العياشي، عن عمر بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله: و الله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله، قلت: و ما الإحسان؟ قال: إذ صليت فأحسن ركوعك و سجودك، و إذا صمت فتوق ما فيه فساد صومك، و إذا حججت فتوق كل ما يحرم عليك في حجتك و عمرتك، قال: و كل عمل تعمله فليكن نقيا من الدنس.
و فيه، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: أ رأيت المؤمن له فضل على المسلم في شيء من المواريث و القضايا و الأحكام حتى يكون للمؤمن أكثر مما يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك؟ قال: لا هما يجريان في ذلك مجرى واحدا إذا حكم الإمام عليهما، و لكن للمؤمن فضلا على المسلم في أعمالهما، قال: فقلت: أ ليس الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر: أمثالها، و زعمت أنهم مجتمعون على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج مع المؤمن؟ قال: فقال: أ ليس الله قد قال: و الله يضاعف لمن يشاء أضعافا كثيرة؟ فالمؤمنون هم الذين يضاعف لهم الحسنات، لكل حسنة سبعين ضعفا، فهذا من فضيلتهم، و يزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافا مضاعفة كثيرة و يفعل الله بالمؤمن ما يشاء.
أقول: و في هذا المعنى أخبار أخر و هي مبتنية جميعا على الأخذ بإطلاق قوله تعالى: و الله يضاعف لمن يشاء بالنسبة إلى غير المنفقين، و الأمر على ذلك إذ لا دليل على التقييد بالمنفقين غير المورد، و لا يكون المورد مخصصا و لا مقيدا، و إذا كانت الآية مطلقة كذلك كان قوله: يضاعف مطلقا بالنسبة إلى الزائد عن العدد و غيره، و يكون المعنى: و الله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء، يضاعف لكل محسن على قدر إحسانه سبعمائة ضعف أو أزيد أو أقل كما يزيد للمنفقين على سبعمائة إذا شاء، و لا ينافي هذا ما تقدم في البيان من نفي كون المراد و الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لأن الذي نفينا هناك إنما هو تقييده بالمنفقين، و المعنى الذي تدل عليه الرواية نفي التقييد.
و قوله (عليه السلام): أ ليس الله قد قال: و الله يضاعف لمن يشاء أضعافا كثيرة اه نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع: آيتين إحداهما: هذه الآية من سورة البقرة، و الأخرى: قوله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة:» البقرة - 245، و مما يستفاد من الرواية إمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق المسلمين و ترتب الثواب عليها، و سيجيء البحث عنها في قوله تعالى: «إلا المستضعفين من الرجال الآية:» النساء - 98.
و في المجمع، قال: و الآية عامة في النفقة في جميع ذلك يشير إلى الجهاد و غيره من أبواب البر: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أيوب قال: أشرف على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل من رأس تل، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أ و ليس في سبيل الله إلا من قتل؟ ثم قال: من خرج في الأرض يطلب حلالا يكف به والديه فهو في سبيل الله، و من خرج يطلب حلالا يكف به أهله فهو في سبيل الله، و من خرج يطلب حلالا يكف به نفسه فهو في سبيل الله، و من خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان.
و فيه، أيضا أخرج ابن المنذر و الحاكم و صححه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل البراء بن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على أمك؟ و كان موسعا على أهله فقال: يا رسول الله ما أحسنها؟ قال: فإن نفقتك على أهلك و ولدك و خادمك صدقة فلا تتبع ذلك منا و لا أذى.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين، و فيها أن كل عمل يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله، و كل نفقة في سبيل الله فهي صدقة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الآية: عن الصادق (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو من عليه فقد أبطل صدقته إلى أن قال الصادق (عليه السلام): و الصفوان هي الصخرة الكبيرة التي تكون في المفازة إلى أن قال في قوله تعالى: كمثل جنة بربوة الآية وابل أي مطر، و الطل ما يقع بالليل على الشجر و النبات، و قال في قوله تعالى: إعصار فيه نار الآية الأعصار الرياح.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات الآية: أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب: في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، قال: من الذهب و الفضة و مما أخرجنا لكم من الأرض، قال: يعني من الحب و التمر و كل شيء عليه زكاة.
و فيه،: أيضا أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه عن البراء بن عازب: في قوله، و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخلة على قدر كثرته و قلته، و كان الرجل يأتي بالقنو و القنوين فيعلقه في المسجد و كان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر و التمر فيأكل، و كان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص و الحشف، و بالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم - و مما أخرجنا لكم من الأرض - و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون - و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه» قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطي لم يأخذه إلا عن إغماض و حياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قول الله: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم - و مما أخرجنا لكم من الأرض - و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أمر بالنخل أن يزكى يجيء قوم بألوان من التمر و هو من أردإ التمر، يؤدونه عن زكاتهم تمر يقال له الجعرور و المعىفأرة قليلة اللحى عظيمة النوى، و كان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد فقال رسول الله لا تخرصوا هاتين النخلتين و لا تجيئوا منها بشيء و في ذلك نزل: و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون - و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، و الإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين، و في رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: أنفقوا من طيبات ما كسبتم فقال: كان القوم كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى الله تبارك و تعالى إلا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا.
أقول: و في هذا المعنى أخبار كثيرة من طرق الفريقين.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر الآية، قال: قال: إن الشيطان يقول لا تنفقوا فإنكم تفتقرون و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا أي يغفر لكم إن أنفقتم لله و فضلا يخلف عليكم.
و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و البيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن للشيطان لمة بابن آدم و للملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر و تكذيب بالحق. و أما لمة الملك فإيعاد بالخير و تصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، و من وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء الآية.
و في تفسير العياشي، أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا قال: المعرفة.
و فيه، عن الصادق (عليه السلام): أن الحكمة المعرفة و التفقه في الدين.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية، قال: طاعة الله و معرفة الإمام.
أقول: و في معناه روايات أخر و هي من قبيل عد المصداق.
و في الكافي، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، و إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، و لا بعث الله نبيا و لا رسولا حتى يستكمل العقل و يكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، و ما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، و ما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، و لا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، و العقلاء هم أولوا الألباب، قال الله تبارك و تعالى: و ما يذكر إلا أولوا الألباب.
و عن الصادق (عليه السلام) قال: الحكمة ضياء المعرفة و ميزان التقوى و ثمرة الصدق و لو قلت: ما أنعم الله على عبده بنعمة أعظم و أرفع و أجزل و أبهى من الحكمة لقلت، قال الله عز و جل: يؤتي الحكمة من يشاء - و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا - و ما يذكر إلا أولوا الألباب.
أقول: و في قوله تعالى: و ما أنفقتم الآية في الصدقة و النذر و الظلم أخبار كثيرة سنوردها في مواردها إن شاء الله.
و في الدر المنثور، بعدة طرق عن ابن عباس و ابن جبير و أسماء بنت أبي بكر و غيرهم: أن رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام و أن المسلمين كانوا يكرهون الإنفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله: ليس عليك هداهم الآية فأجاز ذلك.
أقول: قد مر أن قوله: هداهم إنما يصلح لأن يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم دون الكفار فالآية أجنبية عما في الروايات من قصة النزول، على أن تعيين المورد في قوله: للفقراء الذين أحصروا الآية لا يلائمه كثير ملاءمة، و أما مسألة الإنفاق على غير المسلم إذا كان في سبيل الله و ابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قول الله عز و جل: و إن تخفوها و تؤتوها الفقراء - فهو خير لكم فقال: هي سوى الزكاة، أن الزكاة علانية غير سر.
و فيه، عنه (عليه السلام): كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره و ما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه.
أقول: و في معنى الحديثين أحاديث أخرى و قد تقدم ما يتضح به معناها.
و في المجمع،: في قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله الآية: قال قال أبو جعفر (عليه السلام): نزلت الآية في أصحاب الصفة.
قال: و كذلك رواه الكلبي عن ابن عباس:، و هم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، و لا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، و قالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله، فحث الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل و عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
و في تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): أن الله يبغض الملحف.
و في المجمع،: في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار الآية، قال: سبب النزول عن ابن عباس نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام) كانت معه أربعة دراهم، فتصدق بواحد ليلا و بواحد نهارا و بواحد سرا و بواحد علانية فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية،: قال الطبرسي: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، و المفيد في الاختصاص، و الصدوق في العيون،.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس: في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم - بالليل و النهار سرا و علانية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما و بالنهار درهما و سرا درهما و علانية درهما.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب في المناقب عن ابن عباس و السدي و مجاهد و الكلبي و أبي صالح و الواحدي و الطوسي و الثعلبي و الطبرسي و الماوردي و القشيري و الثمالي و النقاش و الفتال و عبد الله بن الحسين و علي بن حرب الطائي في تفاسيرهم: أنه كان عند ابن أبي طالب دراهم فضة فتصدق بواحد ليلا و بواحد نهارا و بواحد سرا و بواحد علانية فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية فسمى كل درهم مالا و بشره بالقبول.
و في بعض التفاسير: أن الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل و عشرة بالنهار و عشرة بالسر و عشرة بالعلانية.
أقول: ذكر الآلوسي في تفسيره، في ذيل هذا الحديث: أن الإمام السيوطي تعقبه بأن خبر تصدقه بأربعين ألف دينار إنما رواه ابن عساكر في تاريخه، عن عائشة و ليس فيه ذكر من نزول الآية، و كان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: لما قبض أبو بكر و استخلف عمر خطب الناس فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر، و إن بعض اليأس غنى، و إنكم تجمعون ما لا تأكلون، و تؤملون ما لا تدركون، و اعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيرا لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية، و قرأ الآية الكريمة و أنت تعلم أنها لا دلالة فيها على نزولها في حقه انتهى.
و في الدر المنثور، بعدة طرق عن أبي أمامة و أبي الدرداء و ابن عباس و غيرهم أن الآية نزلت في أصحاب الخيل.
أقول: و المراد بهم المرابطون الذين ينفقون على الخيل ليلا و نهارا، لكن لفظ الآية أعني قوله: سرا و علانية لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم و الترديد في الإنفاق على الخيل أصلا.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج المسيب: الذين ينفقون الآية كلها في عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.
أقول: و الإشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الإشكال في سابقه.