سُورَةُ البَقَرَةِ
٢٧٥ - ٢٨١
بيان
الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا و التشديد على المرابين و ليست مسوقة للتشريع الابتدائي، كيف و لسانها غير لسان التشريع: و إنما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم تفلحون:» آل عمران - 130، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، و سياق الآية يدل على أن المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهي السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك، و ترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا، و من هنا يظهر معنى قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله الآية على ما سيجيء بيانه.
و قد تقدم على ما في سورة آل عمران من النهي قوله تعالى في سورة الروم و هي مكية: «و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون:» الروم - 39، و من هنا يظهر أن الربا كان أمرا مرغوبا عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تم أمر النهي عنه في سورة آل عمران، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم نزول النهي عليها، و من هنا يظهر: أن هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران.
على أن حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله: «و أخذهم الربا و قد نهوا عنه:» النساء - 161، و يشعر به قوله: - حكاية عنهم - «ليس علينا في الأميين سبيل:» آل عمران - 75، مع تصديق القرآن لكتابهم و عدم نسخ ظاهر كانت تدل على حرمته في الإسلام.
و الآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: يمحق الله الربا و يربي الصدقات، و قوله: و أن تصدقوا خير لكم، و كذا ما وقع من ذكره في سورة الروم و في سورة آل عمران مقارنا لذكر الإنفاق و الصدقة و الحث عليه و الترغيب فيه.
على أن الاعتبار أيضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد و المقابلة، فإن الربا أخذ بلا عوض كما أن الصدقة إعطاء بلا عوض، و الآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة و تحاذيها على الكلية من غير تخلف و استثناء، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة و المحبة، و إقامة أصلاب المساكين و المحتاجين، و نماء المال، و انتظام الأمر و استقرار النظام و الأمن في الصدقة و خلاف ذلك في الربا.
و قد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من فروع الدين إلا في تولي أعداء الدين، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، و أما سائر الكبائر فإن القرآن و إن أعلن مخالفتها و شدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا و شرب الخمر و القمار و الظلم، و ما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرم الله و الفساد، فجميع ذلك دون الربا و تولي أعداء الدين.
و ليس ذلك إلا لأن تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشئومة، و لا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس، و لا تحكم إلا في الأعمال و الأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين و يعفي أثره، و يفسد به نظام حياة النوع، و يضرب الستر على الفطرة الإنسانية و يسقط حكمها فيصير نسيا منسيا على ما سيتضح إن شاء الله العزيز بعض الاتضاح.
و قد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في أمرهما حيث أهبطت المداهنة و التولي و التحاب و التمايل إلى أعداء الدين الأمم الإسلامية في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهبا منهوبا لغيرهم: لا يملكون مالا و لا عرضا و لا نفسا، و لا يستحقون موتا و لا حياة، فلا يؤذن لهم فيموتوا، و لا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، و هجرهم الدين، و ارتحلت عنهم عامة الفضائل.
و حيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز و تراكم الثروة و السؤدد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة، و انقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد و المعدم الشقي، و بان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، و يزلزل الأرض، و يهدد الإنسانية بالانهدام، و الدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى.
و سيظهر لك إن شاء الله تعالى أن ما ذكره الله تعالى من أمر الربا و تولي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.
قوله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه، و للإنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنه لا محالة ذو أفعال و حركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه، و هذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها و نظمها الإنسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية و الاجتماعية، فهو يقصد الأكل إذا جاع، و يقصد الشرب إذا عطش، و الفراش إذا اشتهى النكاح، و الاستراحة إذا تعب، و الاستظلال إذا أراد السكن و هكذا، و ينبسط لأمور و ينقبض عن أخرى في معاشرته، و يريد كل مقدمة عند إرادة ذيها، و إذا طلب مسببا مال إلى جهة سببه.
و هذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة و مجموعها طريق حياته.
و إنما اهتدى الإنسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة بين الخير و الشر و النافع و الضار و الحسن و القبيح و قد مر بعض الكلام في ذلك.
و أما الإنسان الممسوس و هو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن و القبيح و النافع و الضار و الخير و الشر، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد، لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن و القبح و غيرهما فإنه بالأخرة إنسان ذو إرادة، و من المحال أن يصدر عن الإنسان غير الأفعال الإنسانية بل لأنه يرى القبيح حسنا و الحسن قبيحا و الخير و النافع شرا و ضارا و بالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام و تعيين الموارد.
و هو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك أن يكون عنده آراء و أفكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس، بل قد اختل عنده حكم العادة و غيره و صار ما يتخيله و يريده هو المتبع عنده، فالعادي و غير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط و تضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك.
و هذا حال المرابي في أخذه الربا إعطاء الشيء و أخذ ما يماثله و زيادة بالأجل فإن الذي تدعو إليه الفطرة و يقوم عليه أساس حياة الإنسان الاجتماعية أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه، و أما إعطاء المال و أخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة و أساس المعيشة، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين و تجمعه و تراكمه عند المرابي، فإن هذا المال لا يزال ينمو و يزيد، و لا ينمو إلا من مال الغير، فهو بالانتفاص و الانفصال من جانب، و الزيادة و الانضمام إلى جانب آخر.
و ينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة و كلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص و يتداركه، و في ذلك انهدام حياة المدين.
فالربا يضاد التوازن و التعادل الاجتماعي و يفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.
و هذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإن المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة و المعاوضة فلا يفرق بين البيع و الربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا و يأخذ بالبيع أجاب إن البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا و أخذ البيع، و لذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: إنما البيع مثل الربا.
و من هذا البيان يظهر: أولا: أن المراد بالقيام في قوله تعالى: لا يقومون إلا كما يقوم، هو الاستواء على الحياة و القيام بأمر المعيشة فإنه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى: «ليقوم الناس بالقسط:» الحديد - 25، و قال تعالى: «أن تقوم السماء و الأرض بأمره:» الروم - 25، و قال تعالى: «و أن تقوموا لليتامى بالقسط:» النساء - 127، و أما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد، و لا يستقيم عليه معنى الآية.
و ثانيا: أن المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين، فإن ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، و هو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع و الربا، و بناء عمله عليه، و محصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط، و كم من فرق بينهما و بين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة!.
و ثالثا: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، و لم يقل: إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن و سيجيء توضيحه.
و رابعا: أن التشبيه أعني قوله: الذي يتخبطه الشيطان من المس لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإن الآية و إن لم تدل على أن كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان، و كذلك الآية و إن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فإن الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس و على شرار الجن و شرار الإنس، و إبليس من الجن، فالمتيقن من إشعار الآية أن للجن شأنا في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم.
و ما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، و لا ضير في ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، و أما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.
ففيه: أنه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل و لغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه و رده على قائله، و قد قال تعالى: في وصف كلامه «كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه:» فصلت - 42، و قال تعالى: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل:» الطارق - 14.
و أما إن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أن الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية، فإنها أيضا مستندة بالأخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.
على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال.
لأن التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، و إنما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقلي عن مجرى الحق و سنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الإنسان العاقل الحسن قبيحا و بالعكس، أو يرى الحق باطلا و بالعكس جزافا بتصرف من الشيطان، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، و أما ذهاب القوة المميزة و فساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.
على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة و من غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب و الآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، و قد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب (عليه السلام) إذ قال: «إني مسني الشيطان بنصب و عذاب:» ص - 41، و إذ قال: «إني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين:» الأنبياء - 83، و الضر هو المرض و له أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.
و هذا و ما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية و إقامة لما وراء الطبيعة مقامها، و لم يفقهوا أن المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، و قد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا.
و خامسا: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة و أنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون.
و وجه الفساد أن ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى، و الرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه، و إنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة.
قال في تفسير المنار:، و أما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره،: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن.
أقول: و هذا هو المتبادر و لكن ذهب الجمهور إلى خلافه و قالوا: إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، و إن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، و رووا ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعا: إياك و الذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة، و الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط.
ثم قال: و المتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، و لا قرينة تدل على أن المراد به البعث، و هذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده، و هي لم تنزل مع القرآن، و لا جاء المرفوع منها مفسرا للآية، و لولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع.
ثم قال: و كان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها، و قلما يصح في التفسير شيء، انتهى ما ذكره.
و لقد أصاب فيما ذكره من خطإهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم المال و استعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه، و جعلوه مقصودا لذاته، و تركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، و يظهر ذلك في حركاتهم و تقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة و المغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط و الانهماك في أعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة.
و هذا هو وجه الشبه بين حركاتهم و بين تخبط الممسوس فإن التخبط من الخبط و هو ضرب غير منتظم و كخبط العشواء، انتهى.
فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال و الانتظام و إن كان في نفسه صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا، و لا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية: أما الأول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية و إخلادهم إلى لذائذ المادة، ذلك مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفة الدينية و الوقار النفساني، و تأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة، و تعقب ذلك اضطراب حركاتهم، و هذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا و إن لم يمس الربا طول حياته.
و أما الثاني فلأن الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، و لو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم و فساد النظم في أعمالهم.
فالمصير إلى ما قدمناه.
قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا، قد تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط و الاختلال كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة، و المعروف عند العقلاء و المنكر عندهم سيان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر و الرجوع إلى المعروف أجابك - لو أجاب - إن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه، و لو قال: إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الإدراك فإن معنى هذا القول: أنه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزية مثله، و لم يكن معنى كلامه إبطال المزية و إهماله كما يراه الممسوس، و هذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط: إنما البيع مثل الربا، و لو أنه قال: إن الربا مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس.
و الظاهر أن قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك و إن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، و هذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس.
و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بقولهم: إنما البيع مثل الربوا نظمهما في سلك واحد، و إنما قلبوا التشبيه و جعلوا الربا أصلا و شبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله: و مهمة مغبرة أرجاؤه.
كأن لون أرضه سماؤه.
و كذا فساد ما ذكره آخرون: أنه يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه: أن البيع إنما حل لأجل الكسب و الفائدة، و ذلك في الربا متحقق و في غيره موهوم.
و وجه الفساد ظاهر مما تقدم.
قوله تعالى: و أحل الله البيع و حرم الربوا، جملة مستأنفة بناء على أن الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد.
يقال: جاءني زيد و قد ضرب عمرا، و لا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيد لزمان عامله و ظرف لتحققه، فلو كانت حالا لأفادت: أن تخبطهم لقولهم إنما البيع مثل الربا إنما هو في حال أحل الله البيع و حرم الربا عليهم، مع أن الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية و الحرمة و قبل تشريعهما، فالجملة ليست حالية و إنما هي مستأنفة.
و هذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم تفلحون:» آل عمران - 130، فالجملة أعني قوله: و أحل الله «إلخ» لا تدل على إنشاء الحكم، بل على الإخبار عن حكم سابق و توطئة لتفرع قوله بعدها: فمن جاءه موعظة من ربه إلخ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة.
و قد قيل: إن قوله: و أحل الله البيع و حرم الربوا مسوق لإبطال قولهم: إنما البيع مثل الربوا، و المعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع أن الله أحل أحدهما و حرم الآخر.
و فيه أنه و إن كان استدلالا صحيحا في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فإنه معنى كون الجملة، و أحل الله «إلخ»، حالية و ليست بحال.
و أضعف منه ما ذكره آخرون: أن معنى قوله: و أحل الله «إلخ» إنه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا، لأني أحللت البيع و حرمت الربا، و الأمر أمري، و الخلق خلقي، أقضي فيهم بما أشاء، و أستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي.
و فيه: أنه أيضا مبني على أخذ الجملة حالية لا مستأنفة، على أنه مبني على إنكار ارتباط الأحكام بالمصالح و المفاسد ارتباط السببية و المسببية، و بعبارة أخرى على نفي العلية و المعلولية بين الأشياء و إسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة، و الضرورة تبطله، على أنه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل أحكامه و شرائعه بمصالح خاصة أو عامة، على أن قوله في ضمن هذه الآيات: و ذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين الآية، و قوله: لا تظلمون الآية، و قوله: الذين يأكلون الربوا إلى قوله مثل الربوا، تدل على نوع تعليل لإحلال البيع بكونه جاريا على سنة الفطرة و الخلقة و لتحريم الربا بكونه خارجا عن سنن الاستقامة في الحياة، و كونه منافيا غير ملائم للإيمان بالله تعالى، و كونه ظلما.
قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله، تفريع على قوله: و أحل الله البيع «إلخ»، و الكلام غير مقيد بالربا، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه، و المعنى: أن ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جاءتكم من ربكم و من جاءه موعظة «إلخ» فإن انتهيتم فلكم ما سلف و أمركم إلى الله.
و من هنا يظهر: أن المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى، و من الانتهاء التوبة و ترك الفعل المنهي عنه انتهاء عن نهيه تعالى، و من كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم و شموله لما قبل زمان بلوغه، و من قوله: فله ما سلف و أمره إلى الله، إنه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة، و يبقى عليهم: أن أمرهم إلى الله فربما أطلقهم في بعض الأحكام، و ربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه.
و اعلم: أن أمر الآية عجيب، فإن قوله: فمن جاءه موعظة إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل و التشديد حكم غير خاص بالربا، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة، و القوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه، و رجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، و خلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية.
إذا علمت هذا ظهر لك: أن قوله: فله ما سلف و أمره إلى الله لا يفيد إلا معنى مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة و يختلف باختلافها، فالمعنى: أن من انتهى عن موعظة جاءته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته أيضا كما تخلص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة و الصوم المنقوض و موارد الحدود و التعزيرات و رد المال المحفوظ المأخوذ غصبا أو ربا و غير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة و الانتهاء، و إن شاء عفا عن الذنب و لم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه و من عصى بنحو شرب الخمر و اللهو فيما بينه و بين الله و نحو ذلك، فإن قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى، مطلق يشمل الكافرين و المؤمنين في أول التشريع و غيرهم من التابعين و أهل الأعصار اللاحقة.
و أما قوله: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على أن المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء، و يلازم ذلك الإصرار على الذنب و عدم القبول للحكم و هذا هو الكفر أو الردة باطنا و لو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك، فإن من عاد إلى ذنب و لم ينته عنه و لو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا و لا يفلح أبدا.
فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة و بين الإصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت.
و من هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب.
فإن الآية و إن دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم و لا محذور فيه.
و قد ذكر في قوله تعالى: فله ما سلف، و في قوله: و أمره إلى الله، و قوله: و من عاد «إلخ» وجوه من المعاني و الاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشإ.
قوله تعالى: يمحق الله الربوا و يربي الصدقات «إلخ»، المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، و وقوعه في طريق الفناء و الزوال تدريجا، و الإرباء الإنماء، و الأثيم الحامل للإثم، و قد مر معنى الإثم.
و قد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات و محق الربا، و قد تقدم أن إرباء الصدقات و إنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا أيضا كذلك لا محالة.
فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنماء يلزمها ذلك لزوما قهريا لا ينفك عنها من حيث إنها تنشر الرحمة و تورث المحبة و حسن التفاهم و تألف القلوب و تبسط الأمن و الحفظ، و تصرف القلوب عن أن تهم بالغضب و الاختلاس و الإفساد و السرقة، و تدعو إلى الاتحاد و المساعدة و المعاونة، و تنسد بذلك أغلب طرق الفساد و الفناء الطارئة على المال، و يعين جميع ذلك على نماء المال و دره أضعافا مضاعفة.
كذلك الربا من خاصته أنه يمحق المال و يفنيه تدريجا من حيث إنه ينشر القسوة و الخسارة، و يورث البغض و العداوة و سوء الظن، و يفسد الأمن و الحفظ، و يهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيبا، و تدعو إلى التفرق و الاختلاف، و تنفتح بذلك أغلب طرق الفساد و أبواب الزوال على المال و قلما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بلية تعمه.
و كل ذلك لأن هذين الأمرين أعني الصدقة و الربا مربوطان مماسان بحياة طبقة الفقراء و المعوزين و قد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، و استعدت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة، و هموا بالمقابلة بالغا ما بلغت، فإن أحسن إليهم بالصنيعة و المعروف بلا عوض - و الحال هذه - وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإحسان و حسن النية و أثرت الأثر الجميل، و إن أسيء إليهم بإعمال القسوة و الخشونة و إذهاب المال و العرض و النفس قابلوها بالانتقام و النكاية بأي وسيلة، و قلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من أخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم و خراب بيوتهم و خسران مساعيهم.
و يجب عليك: أن تعلم أولا: أن العلل و الأسباب التي تبنى عليها الأمور و الحوادث الاجتماعية أمور أغلبية الوجود و التأثير، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها و نتائجها التي يغلب تحققها، و نوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها على الأغلب لا على الدوام، و نلحق الشاذ النادر بالمعدوم، و أما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية.
و التدبر في آيات الأحكام التي ذكر فيها مصالح الأفعال و الأعمال و مفاسدها مما يؤدي إلى السعادة و الشقاوة يعطي أن القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال و بناء الأعمال على عللها يسلك هذا المسلك و يضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء.
و ثانيا: أن المجتمع كالفرد و الأمر الاجتماعي كالأمر الانفرادي متماثلان في الأحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود، فكما أن للفرد حياة و عمرا و موتا مؤجلا و أفعالا و آثارا فكذلك المجتمع في حياته و موته و عمره و أفعاله و آثاره.
و بذلك ينطق القرآن كقوله تعالى: «و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون:» الحجر - 5.
و على هذا فلو تبدل وصف أمر من الأمور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو بقائه و زواله و أثره.
فالعفة و الخلاعة الفردية حالكونهما فرديين لهما نوع من التأثير في الحياة فإن ركوب الفحشاء مثلا يوجب نفرة الناس عن الإنسان و الاجتناب عن ازدواجه و عن مجالسته و زوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمرا فرديا و المجتمع على خلافه، و أما إذا صار اجتماعيا معروفا عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنها كانت تبعات الإنكار العمومي و الاستهجان العام للفعل و قد أذهبه التداول و الشياع لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل و الأمراض التناسلية و المفاسد الآخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الأنساب و اختلالها و فساد الانشعابات القومية و الفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة.
و كذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فرديا مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيا من حيث السرعة و البطء.
إذا عرفت ذلك علمت: أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا، و قل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب و عوامل خاصة تدفع عن ساحة حياته الفناء و المذلة، و بين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل و الدول بالرسمية، و وضعت عليها القوانين، و أسست عليها البنوج فإنه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها و تعارف بينها و انصراف النفوس عن التفكر في معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية و تراكمها في جانب، و حلول الفقر و الحرمان العمومي في جانب آخر، و ظهور الانفصال و البينونة التامة بين القبيلين: الموسرين و المعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا و سوف يؤثر أثره السيىء المشئوم، و هذا النوع من الظهور و البروز و إن كنا نستبطئه بالنظر الفردي، و ربما لم نعتن به لإلحاقه من جهة طول الأمد بالعدم، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي، فإن العمر الاجتماعي غير العمر الفردي، و اليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد.
قال تعالى: «و تلك الأيام نداولها بين الناس:» آل عمران - 140، و هذا اليوم يراد به العصر الذي ظهر فيه ناس، على ناس و طائفة، على طائفة و حكومة على حكومة، و أمة، على أمة، و ظاهر أن سعادة الإنسان كما يجب أن يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع.
و القرآن ليس يتكلم عن الفرد و لا في الفرد و إن لم يسكت عنه، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيما على سعادة الإنسان: نوعه و فرده، و مهيمنا على سعادة الدنيا: حاضرها و غابرها.
فقوله تعالى يمحق الله الربا و يربي الصدقات يبين حال الربا و الصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين، و المحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما أن الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها، فالربا ممحوق و إن سمي ربا و الصدقة ربا رابية و إن لم تسم ربا، و إلى ذلك يشير تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها، و توصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى و هو الانمحاق.
و بما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم: أن محق الربا ليس بمعنى إبطال السعي و خسران العمل بذهاب المال الربوي، فإن المشاهدة و العيان يكذبه، و إنما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر و طيب الحياة و هناء العيش، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال و وضع درهم على درهم، و مبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوءا، و الهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس و بغض المعوزين له، و وجه ضعفه ظاهر.
و كذا ما ذكره آخرون: أن المراد به محق الآخرة و ثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات، وجه الضعف: أنه لا شك أن ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك.
و كذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: و من عاد «إلخ»، و قد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال و الدفع جميعا.
قوله تعالى: و الله لا يحب كل كفار أثيم، تعليل لمحق الربا بوجه كلي، و المعنى أن آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الإنسانية، و هي طرق المعاملات الفطرية، و كفره بأحكام كثيرة في العبادات و المعاملات المشروعة، فإنه بصرف مال الربا في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها، و باستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيرا من معاملاته، و يضمن غيره، و يغصب مال غيره في موارد كثيرة، و باستعمال الطمع و الحرص في أموال الناس و الخشونة و القسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقا يفسد كثيرا من أصول الأخلاق و الفضائل و فروعها، و هو أثيم مستقر في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبه لأن الله لا يحب كل كفار أثيم.
قوله تعالى: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات «إلخ»، تعليل يبين به ثواب المتصدقين و المنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين خطاب للمؤمنين و أمر لهم بتقوى الله و هو توطئة لما يتعقبه من الأمر بقوله و ذروا ما بقي من الربا، و هو يدل على أنه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا، و له بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها، و هدد في ذلك بما سيأتي من قوله: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله الآية.
و هذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي.
و في تقييد الكلام بقوله: إن كنتم مؤمنين إشارة إلى أن تركه من لوازم الإيمان، و تأكيد لما تقدم من قوله: و من عاد «إلخ»، و قوله: و الله لا يحب كل كفار «إلخ».
قوله تعالى: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله، الإذن كالعلم وزنا و معنى، و قرىء فآذنوا بالأمر من الإيذان، و الباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين و نحوه، و المعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله و رسوله، و تنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع، و نسبة الحرب إلى الله و رسوله لكونه مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل و التشريع و لرسوله فيه سهم بالتبليغ، و لو كان لله وحده لكان أمرا تكوينيا، و أما رسوله فلا يستقل في أمر دون الله سبحانه قال تعالى: «ليس لك من الأمر شيء»: آل عمران - 128.
و الحرب من الله و رسوله في حكم من الأحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى: «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله:» الحجرات - 9، على أن لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه و هو محاربته إياهم من طريق الفطرة و هو تهييج الفطرة العامة على خلافهم، و هي التي تقطع أنفاسهم، و تخرب ديارهم، و تعفي آثارهم، قال تعالى: «و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:» الإسراء - 16.
قوله تعالى: و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون، كلمة و إن تبتم، تؤيد ما مر أن الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا و له بقايا على مدينيه و معامليه، و قوله: فلكم رءوس أموالكم أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا و لا تظلمون بالتعدي إلى رءوس أموالكم، و في الآية دلالة على إمضاء أصل الملك أولا: و على كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا: و على إمضاء أصناف المعاملات حيث عبر بقوله رءوس أموالكم و المال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات و أصناف الكسب ثالثا.
قوله تعالى: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة، و النظرة المهلة، و الميسرة اليسار، و التمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه و أمهلوه حتى يكون متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه.
و الآية و إن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا، فإنهم كانوا إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، و الآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية و يأمر بالإنظار.
قوله تعالى: و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، أي و إن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا.
قوله تعالى: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله «إلخ»، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم و الجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام، و يهيىء ذكره النفوس لتقوى الله تعالى و الورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكي عليه الحياة، و هو أن أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفي كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون.
و أما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، و معنى هذه التوفية فسيجيء الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
و قد قيل: إن هذه الآية: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون، آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيجيء ما يدل عليه من الروايات في البحث الروائي التالي.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: الذين يأكلون الربا الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، و إذا هم بسبيل آل فرعون: يعرضون على النار غدوا و عشيا، و يقولون ربنا متى تقوم الساعة.
أقول: و هو مثال برزخي و تصديق لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون.
و في الدر المنثور، أخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه، ثم قرأ: لا يقومون - إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
أقول: و قد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة، و في بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أمه.
و في التهذيب، بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس زعموا أن الربح على المضطر حرام فقال: و هل رأيت أحدا اشترى غنيا أو فقيرا إلا من ضرورة؟ يا عمر قد أحل الله البيع و حرم الربا، فاربح و لا ترب. قلت: و ما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، و حنطة بحنطة مثلين بمثل.
و في الفقيه، بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن.
أقول: و قد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال و الذي هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟ أنه إنما يكون في النقدين و ما يكال أو يوزن، و المسألة فقهية لا يتعلق منها غرضنا إلا بهذا المقدار.
و في الكافي، عن أحدهما و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى الآية، قال الموعظة التوبة.
و في التهذيب، عن محمد بن مسلم قال: دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شيء حتى ترده إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقص عليه قصته، فقال أبو جعفر (عليه السلام) مخرجك من كتاب الله عز و جل: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى - فله ما سلف و أمره إلى الله. قال: الموعظة التوبة.
و في الكافي، و الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): كل ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة: و قال لو أن رجلا ورث من أبيه مالا و قد عرف أن في ذلك المال ربا و لكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنه له حلال فليأكله و إن عرف منه شيئا معروفا فليأخذ رأس ماله و ليرد الزيادة.
و في الفقيه، و العيون، عن الرضا (عليه السلام): هي كبيرة بعد البيان. قال: و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر.
و في الكافي،: أنه سئل عن الرجل يأكل الربا و هو يرى أنه حلال قال: لا يضره حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزلة التي قال الله عز و جل.
و في الكافي، و الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): و قد سئل عن قوله تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات الآية، و قيل: قد أرى من يأكل الربا يربو ماله قال: فأي محق أمحق من درهم الربا يمحق الدين و إن تاب منه ذهب ماله و افتقر.
أقول: و الرواية كما ترى تفسر المحق بالمحق التشريعي أعني: عدم اعتبار الملكية و التحريم و تقابله الصدقة في شأنه، و هي لا تنافي ما مر من عموم المحق.
و في المجمع، عن علي (عليه السلام): أنه قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الربا خمسة: آكله و موكله و شاهديه و كاتبه أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، بطرق عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: أنا خالق كل شيء وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإني أقبضها بيدي حتى أن الرجل و المرأة يتصدق بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله و فلوه حتى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد.
و فيه، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة و هو مثل أحد.
أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريرة و عائشة و ابن عمر و أبي برزة الأسلمي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير القمي،: أنه لما أنزل الله: الذين يأكلون الربا الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله و قال يا رسول الله ربا أبي في ثقيف و قد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله - و ذروا ما بقي من الربا الآية.
أقول: و روي قريبا منه في المجمع، عن الباقر (عليه السلام).
و في المجمع، أيضا عن السدي و عكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس و خالد بن الوليد و كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير: ناس من ثقيف فجاء الإسلام و لهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله هذه الآية فقال النبي: ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، و أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، و كل دم في الجاهلية موضوع، و أول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن السدي: إلا أن فيه و نزلت في العباس بن عبد المطلب و رجل من بني المغيرة.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و المتحصل من روايات الخاصة و العامة أن الآية نزلت في أموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، و كانوا يربونهم في الجاهلية، فلما جاء الإسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الإسلام ذلك فرفع أمرهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية.
و هذا يؤيد ما قدمناه في البيان: أن الربا كان محرما في الإسلام قبل نزول هذه الآيات و مبينا للناس، و أن هذه إنما تؤكد التحريم و تقرره، فلا يعبأ ببعض ما روي أن حرمة الربا إنما نزلت في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنه قبض و لم يبين للناس أمر الربا كما في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب: أنه خطب فقال: من آخر القرآن نزولا آية الربا، و أنه قد مات رسول الله و لم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
على أن من مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن الله تعالى لم يقبض نبيه حتى شرع كل ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم و بين ذلك للناس نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، بطرق عديدة عن ابن عباس و السدي و عطية العوفي و أبي صالح و سعيد بن جبير: أن آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى آخر الآية و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا.
و في المجمع، أيضا عن علي (عليه السلام): إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا.
أقول: و قد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات.
و فيه،: في قوله تعالى: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال: و اختلف في حد الإعسار فروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته و قوت عياله على الاقتصاد.
و فيه،: أنه أي إنظار المعسر واجب في كل دين: عن ابن عباس و الضحاك و الحسن و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
و فيه،! قال الباقر (عليه السلام): إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله و أثنى عليه و صلى على أنبيائه ثم قال: أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أنه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم.
أقول: و الرواية تشتمل على تفسير قوله: إن كنتم تعلمون، و قد مر له معنى آخر، و الروايات في هذه المعاني و ما يلحق بها كثيرة و المرجع فيها كتاب الدين من الفقه.
بحث علمي
تقدم مرارا في المباحث السابقة: أن لا هم للإنسان في حياته إلا أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، و بعبارة أخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه، و يرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله و ما عمله و العمل في هذا الباب أعم من الفعل و الانفعال و كان نسبة و رابطة يرتب عليه الأثر عند أهل الاجتماع أي أنه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، و يعده ملكا جائز التصرف لشخصه، و العقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.
لكنه لما كان لا يسعه أن يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحدة دعي ذلك إلى الاجتماع التعاوني و أن ينتفع كل بعمل غيره و ما حازه و ملكه غيره بعمله، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم، و استقر ذلك بأن يعمل الإنسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من أبواب العمل و يملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، و يعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، و هذا أصل المعاملة و المعاوضة.
غير أن التباين التام بين الأموال و الأمتعة من حيث النوع، و من حيث شدة الحاجة و ضعفها، و من حيث كثرة الوجود و قلته يولد الإشكال في المعاوضة، فإن الفاكهة لغرض الأكل، و الحمار لغرض الحمل، و الماء لغرض الشرب، و الجوهرة الثمينة للتقلد و التختم مثلا لها أوزان و قيم مختلفة في حاجة الحياة، و نسب مختلفة لبعضها إلى بعض.
فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس و الدرهم و الدينار، و كان الأصل في وضعه: أنهم جعلوا شيئا من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا أصلا يرجع إليه بقية الأمتعة و السلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية أفراده كالمثاقيل و المكائيل و غيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة و يقوم به كل شيء من الأمتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه و نسبة بعضها إلى بعض.
ثم إنهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقاييس للأشياء كواحد الطول من الذراع و نحوه، و واحد الحجم و هو الكيل، و واحد الثقل و الوزن كالمن و نحوه، و عند ذلك تعينت النسب و ارتفع اللبس، و بان مثلا أن القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير و المن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، و تبين بذلك أن القيراط من الألماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا و على هذا القياس.
ثم توسعوا في وضع نقود أخر من أجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل و التوسعة كنقود الفضة و النحاس و البرنز و الورق و النوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.
ثم افتتح باب الكسب و التجارة بعد رواج البيع و الشراء بأن تعين البعض من الأفراد بتخصيص عمله و شغله بالتعويض و تبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.
فهذه أعمال قدمها الإنسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، و استقر الأمر بالآخرة على أن الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم و الدينار، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله، و كأنه كل متاع يحتاج إليه الإنسان لأنه الذي يقدر الإنسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده و يحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة، و ربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع و الأمتعة و هو الصرف.
و قد ظهر بما مر: أن أصل المعاملة و المعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في أصل المعاوضة، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، و هذا أعني المغايرة هو الأصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع، و أما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به و هو مما يقيم أود الاجتماع، و يرفع حاجة المحتاج و لا فساد يترتب عليه، و إن كان مع زيادة في المبدل منه و هي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ما ذا نتيجة الربا؟ الربا - و نعني به تبديل المثل بالمثل و زيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، أو إعطاء سلعة بعشرة إلى أجل و أخذ اثنتي عشرة عند حلول الأجل و ما أشبه ذلك - إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالإعسار و الإعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة و هو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد و لازمه أن له في غده ثمانية و هو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدل معيشته و حياته في الانمحاق و الانتقاص و لا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه و يبقى تمام ما يقترضه، فيطالب بالعشرين و ليس له و لا واحد 20 - 0 = المال و هو الهلاك و فناء السعي في الحياة.
و أما المرابي فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه و العشرة التي للمقترض، و ذلك تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب و يخلو الجانب الآخر من المال، و ليس إلا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين و انجرار المال إلى طبقة الموسرين، و يؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين، و تحكمهم في أموال الناس و أعراضهم و نفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون و يتهوسون لما في الإنسان من قريحة التعالي و الاستخدام، و إلى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن أنفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع و الانتقام، و هذا هو الهرج و المرج و فساد النظام الذي فيه هلاك الإنسانية و فناء المدنية.
هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على أداء ديونه أو يريد ذلك.
هذا في الربا المتداول بين الأغنياء و أهل العسرة، و أما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك و غيرها كالربا على القرض و الاتجار به فأقل ما فيه أنه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب، و يوجب ازدياد رءوس أموال التجارة و اقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع، و وقوع التطاول بينها و أكل بعضها، بعضا و انهضام بعضها في بعض، و فناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالإعسار، و يجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلين، و عاد المحذور الذي ذكرناه آنفا.
و لا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد أن السبب الوحيد في شيوع الشيوعية، و تقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، و تقدمهم البارز في مزايا الحياة، و حرمان آخرين و هم الأكثرون من أوجب واجباتهم، و قد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به أسماعهم من ألفاظ المدنية و العدالة و الحرية و التساوي في حقوق الإنسانية، و كانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، و يعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، و كانوا يحسبون أنها يسعدهم في ما يريدونه من الإتراف و استذلال الطبقة السافلة و التعالي عليهم، و التحكم المطلق بما شاءوا، و أنها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون أن صار ما حسبوه لهم عليهم، و رجع كيدهم و مكرهم إلى أنفسهم، و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين، و كان عاقبة الذين أساءوا السوآى، و الله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الإنسانية في مستقبل أيامها، و من مفاسد الربا المشئومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، و حبس الألوف و الملايين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع و الشرى، و جلوس قوم على أريكة البطالة و الإتراف، و حرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة و هو اتكاء الإنسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدة لإترافهم، و لا يعيش به آخرون لحرمانهم.
بحث آخر علمي
قال الغزالي في كتاب الشكر من الإحياء:، من نعم الله تعالى خلق الدراهم و الدنانير و بهما قوام الدنيا، و هما حجران لا منفعة في أعيانهما و لكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه و ملبسه و سائر حاجاته، و قد يعجز عما يحتاج إليه و يملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران و هو محتاج إلى جمل يركبه و من يملك الجمل و ربما يستغني عنه و يحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة، و لا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، و لا مناسبة بين الزعفران و الجمل حتى يقال: يعطى مثله في الوزن أو الصورة، و كذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فلا يدري أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته و منزلته حتى إذا تقررت المراتب، و ترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير و الدراهم حاكمين و متوسطين بين الأموال حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مائة دينار و هذا المقدار من الزعفران يسوي مائة، فهما من حيث إنهما متساويان لشيء واحد متساويان، و إنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما، و لو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا و لم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، و يكونا حاكمين بين الأموال بالعدل.
و لحكمة أخرى و هي: التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما، و لا غرض في أعيانهما، و نسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء، لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلا، فاحتيج إلى شيء آخر هو في صورته كأنه ليس بشيء و هو في معناه كأنه كل الأشياء، و الشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها و تحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه و هو وسيلة إلى كل غرض، و كالحرف لا معنى له في نفسه و تظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية.
و فيهما أيضا حكم يطول ذكرها.
ثم قال ما محصله: إنهما لما كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله.
و فرع على ذلك حرمة كنزهما فإنه ظلم و إبطال لحكمتهما، إذ كنزهما كحبس الحاكم بين الناس في سجن و منعه عن الحكم بين الناس و إلقاء الهرج بين الناس من غير وجود من يرجعون إليه بالعدل.
و فرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب و الفضة فإن فيه قصدهما بالاستقلال و هما مقصودان لغيرهما، و ذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة و المكس و الأعمال التي يقوم بها أخساء الناس.
و فرع عليه أيضا حرمة معاملة الربا على الدراهم و الدنانير فإنه كفر بالنعمة و ظلم، فعنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض يتعلق بأعيانهما.
و قد اشتبه عليه الأمر في اعتبار أصلهما و الفروع التي فرعها على ذلك: أما أولا: فإنه ذكر أن لا غرض يتعلق بهما في أنفسهما، و لو كان كذلك لم يمكن أن يقدرا غيرهما من الأمتعة و الحوائج، و كيف يجوز أن يقدر شيء شيئا بما ليس فيه؟ و هل يمكن أن يقدر الذراع طول شيء إلا بالطول الذي له؟ أو يقدر المن ثقل شيء إلا بثقله الذي فيه؟.
على أن اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم إلا بكونهما مقصودين لأنفسهما، و كيف يتصور عزة و كرامة من غير مطلوبية.
على أنها لو لم يكونا إلا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار و الدرهم أعني الذهب و الفضة في الاعتبار، و الواقع يكذب ذلك، و لكان جميع أنواع النقود متساوية القيم، و لم يقع الاعتبار على غيرهما من الأمتعة كالجلد و الملح و غيرهما.
و أما ثانيا: فلأن الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصودية بالاستقلال لهما، بل ما يظهر من قوله تعالى: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله الآية:» التوبة - 34، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما مع قيام الحاجة إلى العمل و المبادلة دائما كما سيجيء بيان ذلك في تفسير الآية.
و أما ثالثا: فلأن ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب و الفضة و كونه ظلما و كفرا موجود في اتخاذ الحلي منهما، و كذا في بيع الصرف، و لم يعدا في الشرع ظلما و كفرا و لا حراما.
و أما رابعا: فلأن ما ذكر من المفسدة لو كان موجبا لما ذكره من الظلم و الكفر بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة و القرض، و لم يجر في الربا الذي في المكيل و الموزون مع أن الحكم واحد، فما ذكره غير تام جمعا و منعا.
و الذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة من غير عوض.
قال تعالى: «و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون:» الروم - 39، فجعل الربا رابيا في أموال الناس و ذلك أنه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما أن البذر من النبات ينمو بالتغذي من الأرض و ضم أجزائها إلى نفسه، فلا يزال الربا ينمو و يزيد هو و ينقص أموال الناس حتى يأتي إلى آخرها، و هذا هو الذي ذكرناه فيما تقدم، و بذلك يظهر أن المراد بقوله تعالى: و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس و لا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه فالربا ظلم على الناس.