سُورَةُ البَقَرَةِ

٢٨٤

لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٨٤

بيان

قوله تعالى: لله ما في السموات و ما في الأرض، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم الخلق مما في السماوات و الأرض، و هو توطئة لقوله بعده: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، أي إن له ما في السماوات و الأرض و من جملتها أنتم و أعمالكم و ما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على أعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها.

و ربما استظهر من الآية: كون السماء مسانخا لأعمال القلوب و صفات النفس فما في النفوس هو مما في السماوات، و لله ما في السماوات كما أن ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان مما في الأرض، و لله ما في الأرض فما انطوى في النفوس سواء أبدي أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة.

قوله تعالى: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، الإبداء هو الإظهار مقابل الإخفاء، و معنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف و اللغة من معناه، و لا مستقر في النفس إلا الملكات و الصفات من الفضائل و الرذائل كالإيمان و الكفر و الحب و البغض و العزم و غيرها فإنها هي التي تقبل الإظهار و الإخفاء.

أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحس و يحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها، إذ لو لا تلك الصفات و الملكات النفسانية من إرادة و كراهة و إيمان و كفر و حب و بغض و غير ذلك لم تصدر هذه الأفعال، فبصدور الأفعال يظهر للعقل وجود ما هو منشؤها.

و أما إخفاؤها فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس.

و بالجملة ظاهر قوله: ما في أنفسكم، الثبوت و الاستقرار في النفس، و لا يعني بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتا تاما يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله: إن تبدوا و قوله: أو تخفوه فإن الوصفين يدلان على أن ما في النفس بحيث يمكن أن يكون منشأ للظهور أو غير منشإ له و هو الخفاء، و هذه الصفات يمكن أن تكون كذلك سواء كانت أحوالا أو ملكات، و أما الخطورات و الهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الإنسان و كذلك التصورات الساذجة التي لا تصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع و عزم فلفظ الآية غير شامل لها البتة لأنها كما عرفت غير مستقرة في النفس، و لا منشأ لصدور الأفعال.

فتحصل: أن الآية إنما تدل على الأحوال و الملكات النفسانية التي هي مصادر الأفعال من الطاعات و المعاصي، و أن الله سبحانه و تعالى يحاسب الإنسان بها، فتكون الآية في مساق قوله تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم:» البقرة - 225، و قوله تعالى: «فإنه آثم قلبه»: البقرة - 283، و قوله تعالى: «إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا:» الإسراء - 36، فجميع هذه الآيات دالة على أن للقلوب و هي النفوس أحوالا و أوصافا يحاسب الإنسان بها، و كذا قوله تعالى: «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا و الآخرة:» النور - 9، فإنها ظاهرة في أن العذاب إنما هو على الحب الذي هو أمر قلبي، هذا.

فهذا ظاهر الآية و يجب أن يعلم: أن الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أظهر أو أخفى، و أما كون الجزاء في صورتي الإخفاء و الإظهار على حد سواء، و بعبارة أخرى كون الجزاء دائرا مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل و سواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلا فالآية غير ناظرة إلى ذلك.

و قد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره و ليس إلا تكليفا بما لا يطاق، فمن ملتزم بذلك و من مؤول يريد به التخلص.

فمنهم من قال: إن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب، و هو تكليف بما لا يطاق، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الآية.

و فيه: أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر.

على أن التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب.

على أنه تعالى يخبر بقوله: «و ما جعل عليكم في الدين من حرج:» الحج - 78، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق.

و منهم من قال: إن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة و مرتبطة بما تقدمتها من آية الدين المذكورة فيها و هو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال: إنها مخصوصة بالكفار.

و منهم من قال: إن المعنى أن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا و تعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.

و منهم من قال: إن المراد بالآية مطلق الخواطر إلا أن المراد بالمحاسبة الأخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو أخفيتموها فإن الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى: «فينبؤكم بما كنتم تعملون:» المائدة - 105، و يدفع هذا و ما قبله؟ بمخالفة ظاهر الآية كما تقدم.

قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و الله على كل شيء قدير، الترديد في التفريع بين المغفرة و العذاب لا يخلو من الإشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات و الأحوال النفسانية السيئة، و إن كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضا لكنه استعمال كالنادر يحتاج إلى مئونة القرائن الخاصة.

و قوله: و الله تعليل راجع إلى مضمون الجملة الأخيرة، أو إلى مدلول الآية بتمامها.

بحث روائي

في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لله ما في السموات و ما في الأرض - و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة و الصيام و الجهاد و الصدقة و قد أنزل الله هذه الآية و لا نطيقها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا و عصينا؟ بل قولوا: سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فلما اقترأها القوم و ذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى آخرها: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن أحمد و مسلم و أبي داود في ناسخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة، و روي قريبا منه بعدة من الطرق عن ابن عباس.

و روى النسخ أيضا بعدة طرق عن غيرهما كابن مسعود و عائشة.

و روي عن الربيع بن أنس: أن الآية محكمة غير منسوخة و إنما المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.

و روي عن ابن عباس بطرق: أن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة و أدائها. فهي محكمة غير منسوخة.

و روي عن عائشة أيضا: أن المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم و الحزن إذا هم بالمعصية و لم يفعلها، فالآية أيضا محكمة غير منسوخة.

و روي من طريق علي عن ابن عباس: في قوله: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه: فذلك سرائرك و علانيتك يحاسبكم به الله فإنها لم تنسخ، و لكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم و يغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم و هو قوله: يحاسبكم به الله يقول يخبركم. و أما أهل الشك و الريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، و هو قوله: و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.

أقول: و الروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في أنها مخالفة لظاهر القرآن على ما تقدم أن ظاهر الآية هو: أن المحاسبة إنما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها و إما من طريق الجوارح، و ليس في الخطور النفساني كسب، و لا يتفاوت في ذلك الشهادة و غيرها و لا فرق في ذلك بين المؤمن و الكافر، و ظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الإخبار بالخطورات و الهمم النفسانية، فهذا ما تدل عليه الآية و تؤيده سائر الآيات على ما تقدم.

و أما حديث النسخ خاصة ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية: أولها: مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه.

ثانيها: اشتماله على جواز تكليف ما لا يطاق و هو مما لا يرتاب العقل في بطلانه.

و لا سيما منه تعالى، و لا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى، بل ربما زاد إشكالا على إشكال فإن ظاهر قوله في الرواية: فلما اقترأها القوم «إلخ» أن النسخ إنما وقع قبل العمل و هو محذور.

ثالثها: أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين: أن قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لا يصلح لأن يكون ناسخا لشيء، و إنما يدل على أن كل نفس إنما يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل، فلو حمل عليها ما لا تطيقه، أو حمل عليها إصر كما حمل على الذين من قبلنا فإنما هو أمر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومن إلا نفسها فالجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، كالمعترضة لدفع الدخل.

رابعها: أنه سيجيء أيضا: أن وجه الكلام في الآيتين ليس إلى أمر الخطورات النفسانية أصلا، و مواجهة الناسخ للمنسوخ مما لا بد منه في باب النسخ.

بل قوله تعالى: آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الذي سيق لبيانه قوله تعالى: لله ما في السموات و ما في الأرض إلى آخر الآية على ما سيأتي إن شاء الله.