سُورَةُ البَقَرَةِ

٢٨٥ - ٢٨٦

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿٢٨٥ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿٢٨٦

بيان

الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إجمال ما اشتملت عليه السورة من التفاصيل المبينة لغرضها، و قد مر في ما مر أن غرض السورة بيان أن من حق عبادة الله تعالى: أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله، و هذا هو الذي تشتمل عليه الآية الأولى من قوله، آمن الرسول إلى قوله: من رسله، و في السورة قصص تقص ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب و النبوة و الملك و غيرها و ما قابلوه من العصيان و التمرد و نقض المواثق و الكفر، و هذا هو الذي يشير إليه و إلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الأولى و تمام الآية الثانية، فالآيتين يرد آخر الكلام في السورة إلى أوله و ختمه إلى بدئه.

و من هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين، توضيحه: أن الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب أن يتصف به أهل التقوى، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حق الربوبية، فذكر أن المتقين من عباده يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و ينفقون من رزق الله و يؤمنون بما أنزل الله على رسوله و على الرسل من قبله و يوقنون بالآخرة، فلا جرم أنعم الله عليهم بهداية القرآن، و بين بالمقابلة حال الكفار و المنافقين.

ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب و خاصة اليهود و ذكر أنه من عليهم بلطائف الهداية، و أكرمهم بأنواع النعم، و عظائم الحباء، فلم يقابلوه إلا بالعتو و عصيان الأمر و كفر النعمة، و الرد على الله و على رسله، و معاداة ملائكته، و التفريق بين رسل الله و كتبه.

فقابلهم الله بحمل الإصر الشاق من الأحكام عليهم كقتلهم أنفسهم و تحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ و نزول الصاعقة و الرجز من السماء عليهم.

ثم عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول و من تبعه من المؤمنين فذكر أنهم على خلاف أهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية و الإرشاد إلا بأنعم القبول و السمع و الطاعة، مؤمنين بالله و ملائكته و كتبه و رسله، غير مفرقين بين أحد من رسله، و هم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية و عزة الربوبية، فإنهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حق الإجابة.

لأن وجودهم مبني على الضعف و الجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطإ، أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط و المؤاخذة كما أورد أهل الكتاب من قبلهم، فالتجئوا إلى جناب العزة و منبع الرحمة أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا، و لا يحمل عليهم إصرا، و لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، و أن يعفو عنهم و يغفر لهم و ينصرهم على القوم الكافرين.

فهذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين، و هو الموافق كما ترى للغرض المحصل من السورة، لا ما ذكروه: أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في الآية السابقة: أن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية الدال على التكليف بما لا يطاق، و أن الآية الأولى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون الآية، حكاية لقبول الأصحاب تكليف ما لا يطاق، و الآية الثانية ناسخة لذلك!.

و ما ذكرناه هو المناسب لما ذكروا في سبب النزول: أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة فإن هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و استقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من مؤمني الأنصار للدين الإلهي و قيامهم لنصرة رسول الله بالأموال و الأنفس، و ترك المؤمنين من المهاجرين الأهلين و البنين و الأموال و الأوطان في جنب الله و لحوقهم برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لإجابتهم دعوة نبيه بالسمع و القبول، و شكر منه لهم، هذا، و يدل عليه بعض الدلالة آخر الآية: أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين فإن الجملة يومىء إلى أن سؤالهم هذا كان في أوائل ظهور الإسلام.

و في الآية من الإجمال و التفصيل، و الإيجاز ثم الإطناب، و أدب العبودية و جمع مجامع الكمال و السعادة عجائب.

قوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون، تصديق لإيمان الرسول و المؤمنين، و إنما أفرد رسول الله عنهم بالإيمان بما أنزل إليه من ربه ثم ألحقهم به تشريفا له، و هذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي بإفراده و تقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى: «فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:» الفتح - 26، و قوله تعالى: «يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا:» التحريم - 8.

قوله تعالى: كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله، تفصيل للإجمال الذي تدل عليه الجملة السابقة، فإن ما أنزل إلى رسول الله يدعو إلى الإيمان و تصديق الكتب و الرسل و الملائكة الذين هم عباد مكرمون، فمن آمن بما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد آمن بجميع ذلك، كل على ما يليق به.

قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول، و قد مر في قوله تعالى: «و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم:» البقرة - 127، النكتة العامة في هذا النحو من الحكاية، و أنه من أجمل السياقات القرآنية، و النكتة المختصة بالمقام مضافا إلى أن فيه تمثيلا لحالهم و قالهم أن هذا الكلام إنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الإيمان بما أنزل الله تعالى، فهم لم يقولوه إلا بلسان حالهم، و إن كانوا قالوه فقد قاله كل منهم وحده و في نفسه، و أما تكلمهم به لسانا واحدا فليس إلا بلسان الحال.

و من عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله و قالوا سمعنا و أطعنا «إلخ»، حيث حكى البعض من غير توسيط القول و البعض الآخر بتوسيطه، و هما جميعا من قول المؤمنين في إجابة دعوة الداعي.

و الوجه في هذه التفرقة أن قولهم: لا نفرق «إلخ» مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم: سمعنا و أطعنا.

و قد بدأ تعالى بالإخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الأفراد فقال: كل آمن بالله ثم عدل إلى الجمع فقال: لا نفرق بين أحد إلى آخر الآيتين، لأن الذي جرى من هذه الأمور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى و بين عيسى و محمد، و النصارى فرقت بين موسى و عيسى، و بين محمد فانشعبوا شعبا و تحزبوا أحزابا و قد كان الله تعالى خلقهم أمة واحدة على الفطرة، و كذلك المؤاخذة و الحمل و التحميل الواقع عليهم إنما وقعت على جماعتهم، و كذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد، بخلاف الإيمان فإنه أمر قائم بالفرد حقيقة.

قوله تعالى: و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير، قولهم سمعنا و أطعنا، إنشاء و ليس بإخبار و هو كناية عن الإجابة إيمانا بالقلب و عملا بالجوارح، فإن السمع يكنى به لغة عن القبول و الإذعان.

و الإطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع و الإطاعة يتم به أمر الإيمان.

و قولهم سمعنا و أطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها.

و هذا تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده: أن يسمع ليطيع، و هو العبادة كما قال تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون:» الذاريات - 57، و قال تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني:» يس - 61.

و قد جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقا آخر لعبده على نفسه و هو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد: الأنبياء و الرسل فمن دونهم فوعدهم أن يغفر لهم إن أطاعوه بالعبودية كما ذكره أول ما شرع الشريعة لآدم و ولده فقال: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون:» البقرة - 38، و ليس إلا المغفرة.

و القوم لما قالوا: سمعنا و أطعنا و هو الإجابة بالسمع و الطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم و هو المغفرة فقالوا عقيب قولهم سمعنا و أطعنا: غفرانك ربنا و إليك المصير، و المغفرة و الغفران: الستر، و يرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب و هو ستر على نواقص مرحلة العبودية، و يظهر عند مصير العبد إلى ربه، و لذلك عقبوا قولهم: غفرانك ربنا بقولهم: و إليك المصير.

قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت، الوسع هو الجدة و الطاقة، و الأصل في الوسع هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة الإنسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الأفعال الاختيارية، فما يقدر عليه الإنسان من الأعمال كأنه تسعه قدرته، و ما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة، ثم سميت الطاقة وسعا فقيل: وسع الإنسان أي طاقته و ظرفية قدرته.

و قد عرفت: أن تمام حق الله تعالى على عبده: أن يسمع و يطيع، و من البين أن الإنسان إنما يقول: «سمعا» فيما يمكن أن تقبله نفسه بالفهم، و أما ما لا يقبل الفهم فلا معنى لإجابته بالسمع و القبول.

و من البين أيضا أن الإنسان إنما يقول: «طاعة» فيما يقبل مطاوعة الجوارح و أدوات العمل، فإن الإطاعة هي مطاوعة الإنسان و تأثر قواه و أعضائه عن تأثير الأمر المؤثر مثلا، و أما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الإنسان أن يسمع ببصره، أو يحل بجسمه أزيد من مكان واحد، أو يتولد من أبويه مرة ثانية فلا يقبل إطاعة و لا يتعلق بذلك تكليف مولوي، فأجابه داعي الحق بالسمع و الطاعة لا تتحقق إلا في ما هو اختياري للإنسان تتعلق به قدرته، و هو الذي يكسب به الإنسان لنفسه ما ينفعه أو يضره، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الإنسان إنما وجده و تلبس به من طريق الوسع و الطاقة.

فظهر مما ذكرنا أن قوله: لا يكلف الله، كلام جار على سنة الله الجارية بين عباده: أن لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الإيمان بما هو فوق فهمهم و الإطاعة لما هو فوق طاقة قواهم، و هي أيضا السنة الجارية عند العقلاء و ذوي الشعور من خلقه، و هو كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول و المؤمنين: سمعنا و أطعنا من غير زيادة و لا نقيصة.

و الجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا، متعلقة المضمون بما تقدمها و ما تأخر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين.

أما بالنسبة إلى ما تقدمها فإنها تفيد: أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم فيه السمع و الطاعة و هو ما في وسعهم أن يأتوا به.

و أما بالنسبة إلى ما تأخر عنها فإنها تفيد أن ما سأله النبي و المؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطإ و النسيان، و عدم حمل الإصر عليهم، و عدم تحميلهم ما لا طاقة لهم به، كل ذلك و إن كانت أمورا حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع، فإن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف، بل من قبيل جزاء التمرد و المعصية، و أما المؤاخذة على الخطإ و النسيان فإنهما و إن كانا بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما.

فمن الممكن أن يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما أو بإيجاب التحفظ عنهما، و خاصة إذا كان ابتلاء الإنسان بهما مستندا إلى سوء الاختيار، و مثله الكلام في حمل الإصر فإنه إذا استند إلى التشديد على الإنسان جزاء لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه و يحترج منه، فإن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل، لأنها مما اختاره الإنسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.

قوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، لما قالوا في مقام إجابة الدعوة سمعنا و أطعنا و هو قول ينبىء عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف و الفتور، و التفتوا أيضا إلى ما آل إليه أمر الذين كانوا من قبلهم و قد كانوا أمما أمثالهم استرحموا ربهم و سألوه أن لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة و الحمل و التحميل لأنهم علموا بما علمهم الله أن لا حول و لا قوة إلا بالله، و أن لا عاصم من الله إلا رحمته.

و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان معصوما من الخطإ و النسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله و يصان به تعالى فصح له أن يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه، و يدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.

قوله تعالى: ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، الإصر هو الثقل على ما قيل، و قيل هو حبس الشيء بقهره، و هو قريب من المعنى الأول فإن في الحبس حمل الشيء على ما يكرهه و يثقل عليه.

و المراد بالذين من قبلنا: هم أهل الكتاب و خاصة اليهود على ما تشير السورة إلى كثير من قصصهم، و على ما يشير إليه قوله تعالى: «و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم:» الأعراف - 157.

قوله تعالى: ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق، إذ قد عرفت أن العقل لا يجوزه أبدا، و أن كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: و قالوا سمعنا و أطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ و نحوه.

قوله تعالى: و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا، العفو محو أثر الشيء، و المغفرة ستره، و الرحمة معروفة، و أما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب أن يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الأصل، و بعبارة أخرى من الأخص فائدة إلى الأعم، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب أثر الذنب و إمحاؤه كالعقاب المكتوب على المذنب، و المغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب و الستر عليه، و الرحمة هي العطية الإلهية التي هي الساترة على الذنب و هيئته.

و عطف هذه الثلاثة أعني قوله: و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا على قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا على ما للجميع من السياق و النظم يشعر: بأن المراد من العفو و المغفرة و الرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطإ و النسيان و نحوها.

و منه يظهر أن المراد بهذه المغفرة المسئولة هاهنا غير الغفران المذكور في قوله: غفرانك ربنا فإنه مغفرة مطلقة في مقابلة الإجابة المطلقة على ما تقدم، و هذه مغفرة خاصة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطإ، فسؤال المغفرة غير مكرر.

و قد كرر لفظ الرب في هذه الأدعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالإيماء و التلويح إلى صفة العبودية فإن ذكر الربوبية يخطر بالبال صفة العبودية و المذلة.

قوله تعالى: أنت مولينا فانصرنا على القوم الكافرين، استيناف و دعاء مستقل، و المولى هو الناصر لكن لا كل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإنه من الولاية بمعنى تولي الأمر، و لما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو مولاهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره، قال تعالى: «و الله ولي المؤمنين:» آل عمران - 68، و قال تعالى: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:» محمد - 11.

و هذا الدعاء منهم يدل على أنهم ما كان لهم بعد السمع و الطاعة لأصل الدين هم إلا في إقامته و نشره و الجهاد لإعلان كلمة الحق، و تحصيل اتفاق كلمة الأمم عليه، قال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين:» يوسف - 108، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين و هو الذي يتعقب الجهاد و القتال و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سائر أقسام الدعوة و الإنذار، كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع، و يشير إلى ما به من الأهمية في نظر شارع الدين قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه:» الشورى - 13، فقولهم أنت مولانا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع و الطاعة، و الله أعلم.

و الحمد لله