سُورَةُ التَّغَابُنِ

١ - ١٠

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٢ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿٣ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٤ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٥ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿٦ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿٧ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿٨ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿٩ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿١٠

بيان

السورة شبيهة بسورة الحديد في سياق كسياقها و نظم كنظمها كأنها ملخصة منها و غرضها تحريض المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله و رفع ما يهجس في قلوبهم و يدب في نفوسهم من الأسى و الأسف على المصائب التي تهجم عليهم في تحمل مشاق الإيمان بالله و الجهاد في سبيل الله و الإنفاق فيها بأن ذلك كله بإذن الله.

و الآيات التي أوردناها من صدر السورة تقدمه و تمهيد لبيان الغرض المذكور تبين أن أسماءه تعالى الحسنى و صفاته العليا تقضي بالبعث و رجوع الكل إليه تعالى رجوعا يساق فيه أهل الإيمان و العمل الصالح إلى جنة خالدة، و أهل الكفر و التكذيب إلى نار مؤبدة فهي تمهيد للأمر بطاعة الله و رسوله و الصبر على المصائب و الإنفاق في سبيل الله من غير تأثر من منع مانع و لا خوف من لومة لائم.

و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: «يسبح لله ما في السماوات و ما في الأرض له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير» تقدم الكلام في معنى التسبيح و الملك و الحمد و القدرة، و أن المراد بما في السماوات و الأرض يشمل نفس السماوات و الأرض و من فيها و ما فيها.

و قوله: «له الملك» مطلق يفيد إطلاق الملك و عدم محدوديته بحد و لا تقيده بقيد أو شرط فلا حكم نافذا إلا حكمه، و لا حكم له إلا نافذا على ما أراد.

و كذا قوله: «و له الحمد» مطلق يفيد رجوع كل حمد من كل حامد - و الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري - إليه تعالى لأن الخلق و الأمر إليه فلا ذات و لا صفة و لا فعل جميلا محمودا إلا منه و إليه.

و كذا قوله: «و هو على كل شيء قدير» بما يدل عليه من عموم متعلق القدرة غير محدودة و لا مقيدة بقيد أو شرط.

و إذ كانت الآيات - كما تقدمت الإشارة إليه - مسوقة لإثبات المعاد كانت الآية كالمقدمة الأولى لإثباته، و تفيد أن الله منزه عن كل نقص و شين في ذاته و صفاته و أفعاله يملك الحكم على كل شيء و التصرف فيه كيفما شاء و أراد، - و لا يتصرف إلا جميلا - و قدرته تسع كل شيء فله أن يتصرف في خلقه بالإعادة كما تصرف فيهم بالإيذاء - الإحداث و الإبقاء - فله أن يبعثهم إن تعلقت به إرادته و لا تتعلق إلا بحكمه.

قوله تعالى: «هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن و الله بما تعملون بصير» الفاء في «فمنكم» تدل على مجرد ترتب الكفر و الإيمان على الخلق فلا دلالة في التفريع على كون الكفر و الإيمان مخلوقين لله تعالى أو غير مخلوقين، و إنما المراد انشعابهم فرقتين: بعضهم كافر و بعضهم مؤمن، و قدم ذكر الكافر لكثرة الكفار و غلبتهم.

و «من» في قوله: «فمنكم» و «منكم» للتبعيض أي فبعضكم كافر و بعضكم مؤمن.

و قد نبه بقوله: «و الله بما تعملون بصير» على أن انقسامهم قسمين و تفرقهم فرقتين حق كما ذكر، و هم متميزون عنده لأن الملاك في ذلك أعمالهم ظاهرها و باطنها و الله بما يعملون بصير لا تخفى عليه و لا تشتبه.

و تتضمن الآية مقدمة أخرى لإثبات المعاد و تنجزه و هي أن الناس مخلوقون له تعالى متميزون عنده بالكفر و الإيمان و صالح العمل و طالحه.

قوله تعالى: «خلق السماوات و الأرض بالحق و صوركم فأحسن صوركم و إليه المصير» المراد بالحق خلاف الباطل و هو خلقها من غير غاية ثابتة و غرض ثابت كما قال: «لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا»: الأنبياء: 17، و قال: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون»: الدخان: 39.

و قوله: «و صوركم فأحسن صوركم» المراد بالتصوير إعطاء الصورة و صورة الشيء قوامه و نحو وجوده كما قال: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»: التين: 4، و حسن الصورة تناسب تجهيزاتها بعضها لبعض و المجموع لغاية وجودها، و ليس هو الحسن بمعنى صباحة المنظر و ملاحته بل الحسن العام الساري في الأشياء كما قال تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: الم السجدة: 7.

و لعل اختصاص حسن صورهم بالذكر للتنبيه على أنها ملائمة للغاية التي هي الرجوع إلى الله فتكون الجملة من جملة المقدمات المسوقة لإثبات المعاد على ما تقدمت الإشارة إليه.

و بهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث و رجوع الخلق إليه تعالى فإنه تعالى لما كان ملكا قادرا على الإطلاق له أن يحكم بما شاء و يتصرف كيف أراد و هو منزه عن كل نقص و شين محمود في أفعاله، و كان الناس مختلفين بالكفر و الإيمان و هو بصير بأعمالهم، و كانت الخلقة لغاية من غير لغو و جزاف كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخرى دائمة خالدة فيعيشوا فيها عيشة باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر و الإيمان و هو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم و يشقى به كافرهم.

و إلى هذه النتيجة يشير بقوله: «و إليه المصير».

قوله تعالى: «يعلم ما في السماوات و الأرض و يعلم ما تسرون و ما تعلنون و الله عليم بذات الصدور» دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية على الاستبعاد و هي أنه كيف يمكن إعادة الموجودات و هي فانية بائدة و حوادث العالم لا تحصى و الأعمال و الصفات لا تعد، منها ظاهرة علنية و منها باطنة سرية و منها مشهودة و منها مغيبة، فأجيب بأن الله يعلم ما في السماوات و الأرض و يعلم ما تسرون و ما تعلنون.

و قوله: «و الله عليم بذات الصدور» قيل: إنه اعتراض تذييلي مقرر لشمول علمه تعالى بما يسرون و ما يعلنون و المعنى: أنه تعالى محيط علما بالمضرات المستكنة في صدور الناس مما لا يفارقها أصلا فكيف يخفى عليه شيء مما تسرونه و ما تعلنونه.

و في قوله: «و الله عليم» إلخ، وضع الظاهر موضع الضمير و الأصل «و هو عليم» إلخ و النكتة فيه الإشارة إلى علة الحكم، و ليكون ضابطا يجري مجرى المثل.

قوله تعالى: «أ لم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم و لهم عذاب أليم» وبال الأمر تبعته السيئة و المراد بأمرهم كفرهم و ما تفرع عليه من فسوقهم.

لما كان مقتضى أسمائه الحسنى و صفاته العليا المعدودة في الآيات السابقة وجوب معاد الناس و مصيرهم إلى ربهم للحساب و الجزاء فمن الواجب إعلامهم بما يجب عليهم أن يأتوا به أو يجتنبوا عنه و هو الشرع، و الطريق إلى ذلك الرسالة فمن الواجب إرسال رسول على أساس الإنذار و التبشير بعقاب الآخرة و ثوابها و سخطه تعالى و رضاه.

ساق تعالى الكلام بالإنذار بالإشارة إلى نبأ الذين كفروا من قبل و أنهم ذاقوا وبال أمرهم و لهم في الآخرة عذاب أليم ثم انتقل إلى بيان سبب كفرهم و هو تكذيب الرسالة ثم إلى سبب ذلك و هو إنكار البعث و المعاد.

ثم استنتج من ذلك كله وجوب إيمانهم بالله و رسوله و الدين الذي أنزله عليه و ختم التمهيد المذكور بالتبشير و الإنذار بالإشارة إلى ما هيىء للمؤمنين الصالحين من جنة خالدة و لغيرهم من الكفار المكذبين من نار مؤبدة.

فقوله: «أ لم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل» الخطاب للمشركين و فيه إشارة إلى قصص الأمم السالفة الهالكة كقوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم، ممن أهلكهم الله بذنوبهم، و قوله: «فذاقوا وبال أمرهم» إشارة إلى ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال و قوله: «و لهم عذاب أليم» إشارة إلى عذابهم الأخروي.

قوله تعالى: «ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أ بشر يهدوننا» إلخ، بيان لسبب ما ذكر من تعذيبهم بعذاب الاستئصال و عذاب الآخرة، و لذلك جيء بالفصل دون العطف كأنه جواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لم أصابهم ما أصابهم من العذاب؟ فقيل: «ذلك بأنه كانت» إلخ، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من العذاب.

و في التعبير عن إتيان الرسل و دعوتهم بقوله: «كانت تأتيهم» الدال على الاستمرار، و عن كفرهم و قولهم بقوله: «فقالوا و كفروا و تولوا» الدال بالمقابلة على المرة دلالة على أنهم قالوا ما قالوا كلمة واحدة قاطعة لا معدل عنها و ثبتوا عليها و هو العناد و اللجاج فتكون الآية في معنى قوله تعالى: «تلك القرى نقص عليك من أنبائها و لقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين»: الأعراف: 101، و قوله: «ثم بعثنا من بعده أي بعد نوح رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين»: يونس: 74.

و قوله: «فقالوا أ بشر يهدوننا» يطلق البشر على الواحد و الجمع و المراد به الثاني بدليل قوله: «يهدوننا» و التنكير للتحقير، و الاستفهام للإنكار أي قالوا على سبيل الإنكار: أ آحاد من البشر لا فضل لهم علينا يهدوننا؟.

و هذا القول منهم مبني على الاستكبار، على أن أكثر هؤلاء الأمم الهالكة كانوا وثنيين و هم منكرون للنبوة و هو أساس تكذيبهم لدعوة الأنبياء، و لذلك فرع تعالى على قولهم: «أ بشر يهدوننا» قوله: «فكفروا و تولوا» أي بنوا عليه كفرهم و إعراضهم.

و قوله: «و استغنى الله» الاستغناء طلب الغنى و هو من الله سبحانه - و هو غني بالذات - إظهار الغنى و ذلك أنهم كانوا يرون أن لهم من العلم و القوة و الاستطاعة ما يدفع عن جمعهم الفناء و يضمن لهم البقاء كأنه لا غنى للوجود عنهم كما حكى الله سبحانه عن قائلهم: «قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا»: الكهف: 35، و قال: «و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة»: حم السجدة: 50.

و مآل هذا الظن بالحقيقة إلى أن لله سبحانه حاجة إليهم و فيهم - و هو الغني بالذات - فإهلاكه تعالى لهم و إفناؤهم إظهار منه لغناه عن وجودهم، و على هذا فالمراد بقوله: «و استغنى الله» استئصالهم المدلول عليه بقوله: «فذاقوا وبال أمرهم».

على أن الإنسان معجب بنفسه بالطبع يرى أن له على الله كرامة كان من الواجب عليه أن يحسن إليه أينما كان كان لله سبحانه حاجة إلى إسعاده و الإحسان إليه كما يشير إليه قوله تعالى: «و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى»: حم السجدة: 50، و قوله: «و ما أظن الساعة قائمة و لئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا»: الكهف: 36.

و مآل هذا الزعم بالحقيقة إلى أن من الواجب على الله سبحانه أن يسعدهم كيفما كان كأن له إليهم حاجة فإذاقته لهم وبال أمرهم و تعذيبهم في الآخرة إظهار منه تعالى لغناه عنهم، فالمراد باستغنائه تعالى عنهم مجموع ما أفيد بقوله: «فذاقوا وبال أمرهم و لهم عذاب أليم».

فهذان وجهان في معنى قوله تعالى: «و استغنى الله» و الثاني منهما أشمل، و في الكلمة على أي حال من سطوع العظمة و القدرة ما لا يخفى، و هو في معنى قوله: «ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا و جعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون»: المؤمنون: 44.

و قيل: المراد و استغنى الله بإقامة البرهان و إتمام الحجة عليهم عن الزيادة على ذلك بإرشادهم و هدايتهم إلى الإيمان.

و قيل: المراد و استغنى الله عن طاعتهم و عبادتهم أزلا و أبدا لأنه غني بالذات، و الوجهان كما ترى.

و قوله: «و الله غني حميد» في محل التعليل لمضمون الآية، و المعنى: و الله غني في ذاته محمود فيما فعل، فما فعل بهم من إذاقتهم وبال أمرهم و تعذيبهم بعذاب أليم على كفرهم و توليهم من غناه و عدله لأنه مقتضى عملهم المردود إليهم.

قوله تعالى: «زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم و ذلك على الله يسير» ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيين و هو إنكارهم الدين السماوي بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبني على الأمر و النهي و الحساب و الجزاء و يصلح تعليلا لإنكار الرسالة إذ لا معنى حينئذ للتبليغ و الوعيد.

و المراد بالذين كفروا عامة الوثنيين و منهم من عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم كأهل مكة و ما والاها، و قيل: المراد أهل مكة خاصة.

و قوله: «قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم» أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من أصناف التأكيد بالقسم و اللام و النون.

و «ثم» في «ثم لتنبؤن» للتراخي بحسب رتبة الكلام، و في الجملة إشارة إلى غاية البعث و هو الحساب و قوله: «و ذلك على الله يسير» أي ما ذكر من البعث و الإنباء بالأعمال يسير عليه تعالى غير عسير، و فيه رد لإحالتهم أمر البعث على الله سبحانه استبعادا، و قد عبر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله: «و هو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه»: الروم: 27.

و الدليل عليه ما عده في صدر الآيات من أسمائه تعالى و صفاته من الخلق و الملك و العلم و أنه مسبح محمود، و يجمع الجميع أنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال.

و يظهر من هنا أن التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله: «و ذلك على الله يسير» للإيماء إلى التعليل، و المفاد أن ذلك يسير عليه تعالى لأنه الله، و الكلام حجة برهانية لا دعوى مجردة.

و ذكروا أن الآية ثالثة الآيات التي أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقسم بربه على وقوع المعاد و هي ثلاث: إحداها قوله: «و يستنبؤنك أ حق هو قل إي و ربي»: يونس: 53، و الثانية قوله: «و قال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى و ربي لتأتينكم»: سبأ: 3، و الثالثة الآية التي نحن فيها.

قوله تعالى: «فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا و الله بما تعملون خبير» تفريع على مضمون الآية السابقة أي إذا كنتم مبعوثين لا محالة منبئين بما عملتم وجب عليكم أن تؤمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزله على رسوله و هو القرآن الذي يهدي بنوره الساطع إلى مستقيم الصراط، و يبين شرائع الدين.

و في قوله: «و النور الذي أنزلنا» التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير و لعل النكتة فيه تتميم الحجة بالسلوك من طريق الشهادة و هي أقطع للعذر فكم فرق بين قولنا: و النور الذي أنزل و هو إخبار، و قوله: «و النور الذي أنزلنا» ففيه شهادة منه تعالى على أن القرآن كتاب سماوي نازل من عنده تعالى، و الشهادة آكد من الإخبار المجرد.

لا يقال: ما ذا ينفع ذلك و هم ينكرون كون القرآن كلامه تعالى النازل من عنده و لو صدقوا ذلك كفاهم ما مر من الحجة على المعاد و أغنى عن التمسك بذيل الالتفات المذكور.

لأنه يقال: كفى في إبطال إنكارهم كونه كلام الله ما في القرآن من آيات التحدي المثبتة لكونه كلام الله، و الشهادة على أي حال آكد و أقوى من الإخبار و إن كان مدللا.

و قوله: «و الله بما تعملون خبير» تذكرة بعلمه تعالى بدقائق أعمالهم ليتأكد به الأمر في قوله: «فآمنوا» و المعنى: آمنوا و جدوا في إيمانكم فإنه عليم بدقائق أعمالكم لا يغفل عن شيء منها و هو مجازيكم بها لا محالة.

قوله تعالى: «يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن» إلخ، «يوم» ظرف لقوله السابق: «لتبعثن ثم لتنبؤن» إلخ، و المراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم قال تعالى: «و نفخ في الصور فجمعناهم جمعا»: الكهف: 99، و قد تكرر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة، و يفسره أمثال قوله تعالى: «إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: الجاثية: 17، و قوله: «فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: البقرة: 113، و قوله: «إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: السجدة: 25، فالآيات تشير إلى أن جمعهم للقضاء بينهم.

و قوله: «ذلك يوم التغابن» قال الراغب: الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك و بينه بضرب من الإخفاء.

قال: و يوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المعاملة المشار إليها بقوله: «و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله» و بقوله: «إن الله اشترى من المؤمنين» الآية، و بقوله: «الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا» فعلموا أنهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة و فيما تعاطوه من ذلك جميعا.

و سئل بعضهم عن يوم التغابن فقال: تبدو الأشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدنيا.

انتهى موضع الحاجة.

و ما ذكره أولا مبني على تفسير التغابن بسريان المغبونية بين الكفار بأخذهم لمعاملة خاسرة و تركهم معاملة رابحة، و هو معنى حسن غير أنه لا يلائم معنى باب التفاعل الظاهر في فعل البعض في البعض.

و ما نقله عن بعضهم وجه ثان لا يخلو من دقة، و يؤيده مثل قوله تعالى: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين»: الم السجدة: 17، و قوله: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35، و قوله: «و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون»: الزمر: 47.

و مقتضى هذا الوجه عموم التغابن لجميع أهل الجمع من مؤمن و كافر أما المؤمن فلما أنه لم يعمل لآخرته أكثر مما عمل، و أما الكافر فلأنه لم يعمل أصلا، و الوجه المشترك بينهما أنهما لم يقدرا اليوم حق قدره.

و يرد على هذا الوجه ما يرد على سابقه.

و هناك وجه ثالث و هو أن يعتبر التغابن بين أهل الضلال متبوعيهم و تابعيهم فالمتبوعون و هم المستكبرون يغبنون تابعيهم و هم الضعفاء حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا و ترك الآخرة فيضلون، و التابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره و مغبون من غيره.

و هناك وجه رابع وردت به الرواية و هو أن لكل عبد منزلا في الجنة لو أطاع الله لدخله، و منزلا في النار لو عصى الله لدخله و يوم القيامة يعطى منازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، و يعطى منازل أهل الجنة في النار لأهل النار فيكون أهل الجنة و هم المؤمنون غابنين لأهل النار و هم الكفار و الكفار هم المغبونون.

و قال بعض المفسرين بعد إيراد هذا الوجه: و قد فسر التغابن قوله ذيلا: «و من يؤمن بالله - إلى قوله - و بئس المصير» انتهى.

و ليس بظاهر ذاك الظهور.

و قوله: «و من يؤمن بالله و يعمل صالحا - إلى قوله - و بئس المصير» تقدم تفسيره مرارا.

بحث روائي

في صحيح البخاري، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا. و ما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق العامة و الخاصة و قد تقدم بعضها في تفسير أول سورة المؤمنون.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و الأرض، و يوم التناد يوم ينادي أهل النار أهل الجنة «أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله» و يوم التغابن يوم يغبن أهل الجنة أهل النار، و يوم الحسرة يوم يؤتى بالموت فيذبح.

أقول: و في ذيل آيات صدر السورة المبحوث عنها عدة من الروايات توجه الآيات بشئون الولاية كالذي ورد أن الإيمان و الكفر هما الإيمان و الكفر بالولاية يوم أخذ الميثاق، و ما ورد أن المراد بالبينات الأئمة، و ما ورد أن المراد بالنور الإمام و هي جميعا ناظرة إلى بطن الآيات و ليست بمفسرة البتة.